الخميس، 20 أكتوبر 2016

همسات في أذن التاجر المكي2


أخي الفاضل، هذه كلمات يسيرة أردت أن أهمس بها في أذنيك نصيحةً لك، وإضاءةً لطريقك، وتشجيعًا لك على ما أنت عليه من الخير والفضل، وتنبيهًا على بعض الأمور التي ينبغي تجنبها، وأمور أخرى ينبغي الإتيان بها؛ فقرب إلي -أخي- سمعك فاتحًا قلبك، موسعًا صدرك، والله يوفقك وينير دربك:

الهمسة الأولى:
أخي الفاضل، اعلم أن مهنة التجارة التي تزاولها هي عز للرجل وشرف له، وبها يكون كف النفس عن النظر إلى ما في أيدي الناس، وعن انتظار دعم أو إعانة مادية من صديق أو قريب، أو عدو أو غريب، بل بها يكون المرء هو صاحب اليد العليا، والمعطي والداعم، والمنفق والمتبرع؛ ولهذا لم ينه الدين الإسلامي الناس عن مزاولة التجارة ولا حذرهم منها، بل أرشدهم إليها وحثهم عليها، وسمى أرباحها فضلا من الله؛ مما يدل على مكانة التجارة في الإسلام وأهميتها، يقول الله –تعالى-: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)، ويقول –تعالى-: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ)، ويقول: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)، ويقول –صلى الله عليه وسلم– كما في صحيح البخاري: (ما أكل أحد طعاما قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده )، وفي مسند الإمام أحمد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سُئلَ: أي الكسب أطيب؟ فقال: (عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور)، وقال المروزي: "سمعت رجلا يقول لأبي عبد الله إني في كفاية، قال: الزم السوق تصل به الرحم وتعود به على نفسك"، وقال أحمد للميموني: "استغن عن الناس؛ فلم أر مثل الغني عن الناس". وسئل إبراهيم النخعي عن رجل يترك التجارة ويشتغل بالعبادة وآخر يعبد الله لكنه لا يترك التجارة أيهما أفضل؛ فقال التاجر الأمين.

إذن -أخي الفاضل- أنت على خير كبير، تزاول مهنةً شريفةً محثوثًا عليها ومرغبًا فيها؛ فاستمر عليها، واستعن بها على فعل الخيرات، وبذل الصدقات، وإياك وأن تجعلها سببا لعصيان الله في البلد الحرام، وانتهاك حرماته، والتكبر على أهله وجيرانه.

الهمسة الثانية:
أخي الفاضل، لا يخفى عليك أنك تسكن مكة البلد المبارك، البلد الذي خصه الله بعبادات لم يشرعها في مكان آخر في الدنيا غيره، كالطواف وتقبيل الحجر الأسود، واستلام الركن اليماني، والحج والعمرة، كما رتّب على أدائها حسناتٍ عظيمةً وأجورًا كبيرةً، يقول –صلى الله عليه وسلم– كما في مسند أحمد: (من طاف بهذا البيت أُسْبُوعًا فأحصاه كان كعتق رقبة)، وقال: (لا يضع قدمًا ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه خطيئة، وكتب له بها حسنة)، ويقول في مسح الركنين كما في سنن الترمذي: (إن مسْحَهما كفارةٌ للخطايا)، ويقول في حج بيت الله كما في الصحيحين: (من حج هذا البيتَ فلم يرفث، ولم يفسق؛ رجع من ذنوبه كيومِ ولدته أمُّه)، ويقول في الحج والعمرة معًا كما في سنن النسائي: (الحجة المبرورة ليس لها جزاء إلا الجنة، والعمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما).

تسكن في البلد الذي بارك الله فيه وفي رزق أهله؛ حيث تجبى إليه الثمرات الكثيرة والمتنوعة من أطراف الدنيا ونواحيها المختلفة، وتوجد فيه فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء؛ وكل ذلك من آثار استجابة الله لدعاء الخليل إبراهيم –عليه السلام– حين دعا ربه لمكة ولأهلها قائلا: (رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ)، ومما يدل على بركة رزق أهل مكة وطعامهم قوله –صلى الله عليه وسلم– كما في الصحيحين: (اللّهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة).

إذن – أخي الفاضل– جعلك ربك تسكن البلدة المباركة وتزاول فيها مهنة التجارة مهنة العز والشرف، وهذا يتطلب منك مزيدا من الشكر لله –جل وعلا – بقلبك ولسانك وجوارحك، وأنت تعلم أن النعم تزيد وتدوم مع الشكر، وتنقص وتزول مع كفرانها، يقول الله –تعالى-: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ).

الهمسة الثالثة:
أخي الفاضل، كن في هذا البلد المبارك تاجرا صالحا ليبارك الله في تجارتك، وليكون ما تكسبه من مهنتك حلالا لك ولأهلك وولدك، ولتكون لغيرك قدوة للخير والصلاح، وهاك هذه الأمورَ التي ينبغي لكل تاجر صالح مراعاتها:

1-الصدق: الصدق مطلب مهم للتاجر؛ فالتاجر الصدوق يكون مرضيًا عند الله –عز وجل-، ومحل ثقة واطمئنان لدى الناس، ويكون ما يكسبه مقابل صدقه؛ بركةً له وحلالًا أكله وإنفاقه في مصالحه، ومن باع بالكذب والتزوير فكسبه حرام، ويبعث يوم القيامة فاجرًا من الفجار، يقول –صلى الله عليه وسلم– كما في صحيح ابن حبان: (إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارًا إلا من اتّقى، وبرَّ، وصدَق).

2-الأمانة وعدم الغش: التاجر الصالح لا بد أن يكون أمينا لا يغش الناس في بيعه لهم، والغش أمر مذموم وخيانة كبيرة، والمؤمن لا يكون غاشًا ولا خائنًا، يقول الله –تعالى– في ذكر صفات المؤمنين المحافظين على الصلوات وفرائض الدين: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ)، وثبت في الحديث أن من صفات المنافقين: (وإذا ائتمن خان)، وثبت في صحيح مسلم وغيره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرَّ على صُبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: (ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: (أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس، فمن غشنا فليس منَّا).

والغش هو إظهار الشيء على خلاف حقيقته دون علم المشتري به.

3-المروءة: ينبغي للتاجر أن يكون صاحب مروءة؛ فيبتعد عما يذمه الناس عرفًا ويحط من قدره؛ من الجشع والطمع الزائد، ومحاولة إضرار البائعين الآخرين بحيل وطرق غير مشروعة، قال أبو حاتم البستي: "والمروءة عندي خصلتان: اجتنابُ ما يكره الله والمسلمون من الفِعالِ، واستعمالُ ما يُحب الله والمسلمون من الخِصال".

4-السماحة: ينبغي للتاجر أن يكون سمحا في تعامله مع المشترين؛ فيكون متساهلًا معهم ويقابلهم بطيب نفس ولا يغضب منهم ولا يجادلهم بمجرد اختلاف يسير في تحديد سلعة ما، ويبيع للفقراء وقليلي المال بمقابل ربح قليل، ويسترجع السلعة ممن لا يريدها بعد اكتمال البيع بصدر رحب ومن دون انزعاج، يقول –صلى الله عليه وسلم-: (رحم الله عبدًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتضى).

5-التعامل بحسن الخلق، ينبغي للتاجر أن يكون حسن الخلق حسن التعامل مع المشترين؛ فيعفو ويصفح ولا يتكبر عليهم ولا يسبهم أو يشتمهم إن حصل هناك اختلاف في وجهات النظر، والتاجر إن ساء تعامله وخلقه فإنه ينفر الناس عنه وعن بضائعه، يقول –صلى الله عليه وسلم– في فضل حسن الخلق كما في سنن الترمذي: (ما من شيء يوضع في المِيزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة).

6-النصيحة: ينبغي للتاجر أن يكون ناصحا للمشتري؛ فيبين العيب الذي يوجد في السلعة إن خفي عليه ولم ينتبه له، والدين النصيحة كما صح ذلك عن النبي – صلى الله عليه وسلم-.


7-المحافظة على الفرائض: يجب على التاجر ألا ينشغل بتجارته عن فرائض الله –سبحانه وتعالى– وواجبات الدين، ومن أهمها الصلوات الخمس في أوقاتها مع الجماعة، يقول الله – تعالى -: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ).

وكيف للمرء أن يفرط في الصلوات في أرض الحرم، والصلاة الواحدة فيها تساوي مائة ألف صلاة في غيرها؟ كيف تسمح له نفسه بالتفريط في هذا الفضل الكبير والأجر العظيم؟

الهمسة الرابعة:
 أخي الكريم، هناك أحكام تتعلق بالتاجر وبمن يمتهن البيع والشراء؛ فلا بد من معرفتها لتفادي الوقوع في المحاذير الشرعية، من ذلك:

1-طلب المال الحلال وتجنب المال الحرام، يقول –صلى الله عليه وسلم– كما في سنن الترمذي: (لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به).

2-تجنب احتكار السلع والبضائع، يقول –صلى الله عليه وسلم– كما في صحيح مسلم: (لا يحتكر إلا خاطئ)، أي: إلا آثم.

3-تجنب كثرة الحلف لترويج البضاعة، يقول –صلى الله عليه وسلم– كما في صحيح مسلم: (إياكم وكثرة الحلف في البيع؛ فإنه ينفق، ثم يمحق).

4-تجنب التطفيف في الكيل والوزن، قال –تعالى-: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ).

5-تجنب النجش، وقد نهى النبي –صلى الله عليه وسلم– عن ذلك كما في الصحيحين.

والنجش هو: زيادة السعر في السلعة ممن لا يريد شراءها بغرض خداع المشتري، وهذا يحصل كثيرا في المزادات.

6-تجنب التكسب عن طريق الربا والميسر، قال –تعالى-: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)، وقال –تعالى-: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ).
7-تجنب البيع على بيع الآخر حتى ينتهي المشتري منه ويتركه، يقول –صلى الله عليه وسلم– كما في صحيح البخاري: (ولا يبع بعضكم على بيع أخيه).
8-تجنب بيع السلع المحرمة كالخمر والخنزير وغيرهما، يقول –صلى الله عليه وسلم– كما في صحيح ابن حبان: (إن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه).

9-رفض البيع إن عُلم أن المشتري يريد السلعة لمعصية الله –تعالى-، كرفض بيع العنب لمن عُلم أنه يصنع به خمرا؛ وذلك لأن البيع لمثله يعد تعاونا على الإثم والعدوان، والله –تعالى- يقول: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ).

الهمسة الخامسة والأخيرة:
أخي الكريم، أنت أحد سكان البلد الحرام مكة المكرمة، وتعلم أن كثيرا ممن يسكنون هذا المبارك لا يعرفون عظمته وحرمته المَعرِفةَ المطلوبة، وليس عندهم القدر الكافي من ثقافة تعظيم مكة التي ينبغي لكل فرد من أهلها أن تكون مغروسة في نفسه هذه الثقافة؛ فكن صاحب مبادرة في نشر هذه الثقافة بمالك أو فكرك أو بأسلوبك وتعاملك مع أفراد المجتمع المكي.

وكن صاحب بصمة جميلة في المجتمع المكي؛ فادعم المؤسسات والمشاريع الخيرية التي تفيد أبناء مكة في شتى المجالات ماديا ومعنويا؛ فما تنفقه في تلك المؤسسات وفي مجالات الخير ووجوه البر هو ما يبقى معك فقط ويرافقك في الدار الآخرة، وأما غير ذلك فلا تجد له أي أثر بعد أن تودع الدنيا وتفيض روحك إلى الباري –جل وعلا-.


أسأل الله العلي القدير أن يبارك في تجارتك وفي أهلك وولدك، ويوفقك لكل خير، ويجنبك كل شر، ويجعلك تاجرا صالحا ينفع المجتمع المكي بفكره وماله؛ إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير. 

همسات في أذن التاجر المكي


هذه الأسطر القادمة إنما هي همسات في أذن كل تاجر أكرمه الله –سبحانه وتعالى– بنعمة السكنى بأقدس البقاع على وجه الأرض وأطهرها وأفضلها، ألا وهي مكة المكرمة، البلد الحرام، البلد الذي لا ينفر صيده، ولا يقطع شجره، ولا تلتقط لقطته إلا للتعريف طول الدهر ...

وأكرمه المولى –جلا وعلا– إضافةً إلى نعمة السكنى بالبلد الحرام؛ بأن أغناه ورزقه من خيره وواسع فضله؛ حيث وفقه لأن يكون تاجرا يمتهن البيع والشراء على ثرى أم القرى، وبارك في عمله هذا، وجعله باب رزقه ورزق أهله وولده ...

أخي التاجر الكريم، إنك في فضل كبير، ونعمة عظيمة، فهناك آلاف من المسلمين يتمنون أن تكون حالتهم مثل حالتك يعيشون كما تسكن في أفضل البقاع، ويُغنون أنفسهم وعيالهم بامتهان التجارة والبيع والشراء، ويجعلون ذلك مصدر رزقهم وسعادتهم، لكن الله لم يكتب لهم ذلك كما كتبه لك؛ فهل استشعرت هذا الفضل الذي أنت فيه؟ فهل أحسست بالنعم التي أنت عليها؟

أخي التاجر الكريم، لا بد أن تستشعر هذه النعم، وأن تقوم بشكرها وشكر مسديها –جل وعلا-؛ فتقوم بامتثال أوامر الله فيك، بأداء الواجبات وترك المنهيات، ومن أولى الواجبات أداء الصلوات الخمس مع جماعة المسلمين، ولا يخفى عليك أجر الصلوات في هذه البلدة الطاهرة والمدينة المباركة؛ حيث يقول –صلى الله عليه وسلم– كما في مسند أحمد: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة).

ما أوفر حظك -أخي– وما أحسنه، تعيش في حرم الله، وتتمتع فيه برزقه وفضله، وتُكرم بأجر مائة ألف حسنة حين أدائك صلاة واحدة، وأنت تصلي في اليوم والليلة أقل شيء خمس صلوات، بمعنى أنك على أدنى الاحتمالات تكتسب خمسمائة ألف حسنة في اليوم من الصلوات، والحسنة بعشر أمثالها، وصلاة الجماعة فيها سبع وعشرون درجة! الله أكبر، ما أكرمه –سبحانه-، وما ألطفه بعباده! أيمكنك أن تنسى هذا الرب بعد أفضاله هذه عليك؟ أيمكنك أن تعصيه وتترك أوامره بعد أن أعطاك كل هذه النعم والخيرات؟

أخي التاجر المكي، اعلم أنك لست مثل غيرك من التجار؛ أنت تجارتك في حرم الله، وأحب مكان إليه في الدنيا، أنت تتعامل مع أهل مكة والمجاورين لبيت الله وضيوف الرحمن من الحجاج والمعتمرين؛ فيجب عليك أن تكون أشد حذرا من غيرك في كل صفقة بيع أو شراء، كن حذرا من أن يحصل في صفقاتك كذب أو غش أو خداع أو غرر؛ حيث نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الغرر كما في صحيح مسلم، أو أن يحصل هناك تطفيف في الكيل وبخس في السلعة، يقول الله –تعالى-: (ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون)، ويقول –تعالى-: (أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين * وزنوا بالقسطاس المستقيم)، ويقول –تعالى-: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم)، وغش المسلم وخداعه من المحرمات، ففي صحيح مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللا فقال: (ما هذا يا صاحب الطعام؟). قال أصابته السماء يا رسول الله، قال: (أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني).

هذه كلها منهيات شرعية يجب اجتنابها على كل مسلم حين البيع والشراء، لكن ذلك في حقك أوجب وآكد -يا أيها التاجر المكي-؛ لكونك تبيع وتشتري بأرض الحرم؛ حيث يضاعف الذنب، وتعظم المعصية أكثر وأكثر، يقول الله –تعالى-: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم)، يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "لو أن رجلًا أراد بإلحاد فيه بظلم وهو بِعَدَن أَبْيَن لأذاقه الله من العذاب الأليم"، فإن كان المرء يعذب بمجرد إرادته فعل الذنب في أرض الحرم دون أن يفعله؛ فكيف بمن يعصي الله فيها بخداع أهل الحرم وزوار بيت الله والكذب عليهم وغشهم في البيع والشراء؟!

أخي التاجر المكي، كن سمحا في بيعك وشرائك بثرى الحرم الطاهر، كن صادقا، كن ناصحا لأهل بيت الله المقدّس؛ ليبارك الرحمن في تجارتك وزرقك، ويديم عليك النعم، ويعظم أجرك ويكثر حسناتك، فالحسنات التي تكتسبها بمكة لا تعادلها أي حسنات أخرى تكتسبها في غير مكة، حسنات مكة مباركة ومضاعفة، بل قال بعض العلماء: إن كل حسنة بمكة بمائة ألف حسنة ولو كانت في خارج الصلاة.

أيها التاجر المكي، جعلك ربك في مكان تستطيع أن تكون فيه شعلة مضيئة وقدوة خير للناس؛ فكن حسن الخلق والتعامل مع الناس، واغرس فيهم تعظيم هذا البلد الحرام بسلوكك الجميل والعبارات التي تبين من خلالها لهم أنه لا يمكنك أن تخدعهم أو تغشهم أو تكذب عليهم في البيع وأنت في أرض الحرم الطاهرة التي يجب ألا يصدر فيها ممن يسكنها إلا كل فعل طيب وقول حسن، وأن يجتنب فيها كل فعل وقول لا يليق بالحرم، ولا بعظمة المكان وقداسته، يقول الله –تعالى-: (وطهر بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود)؛ وطهارة هذا البيت المقدس وحرمه تكون من كل ما لا ينبغي فعله فيه من الشرك والبدع ومن كل المعاصي والذنوب؛ أيمكن أن يعصى الخالق الرب ويُخالف أمرُه في بيته وحرم بيته؟!

أخي التاجر المكي، التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى وبر وصدق؛ فكن أنت ممن اتقى الله –عز وجل– وعظم بيت الله وراعى حرماته فيه بالتزام الصدق والنصيحة لجيران بيت الله الحرام وعدم غشهم وخداعهم، وبعدم بيعك لهم سلعا معيبة مغشوشة مزورة، أو بأكثر من ثمنها الذي تستحقه كما يفعله أكثر التجار الذين لا يخافون الله ولا يحترمون حرمات الله ولا حرمات بيته الحرام والمجاورين له من العباد والصالحين.


نسأل الله العلي القدير أن يرزقك وأهلك وولدك من فضله وواسع رحمته، وأن يجنبك الوقوع في المحاذير الشرعية والمنهيات في بيعك وشرائك، ويبارك لك في عملك ومالك وعمرك؛ إنه سميع قريب مجيب الدعوات.

واو العطف هل تكتب متصلةً، أم منفصلةً عما بعدها؟


يعلم أن هناك من حروف المعاني في النحو ما يتكون من حرفين فأكثر، وهناك ما يكون منها على صورة حرف واحد.

فالنوع الأول مثل: من، وإلى، وعن، وفي، وما أشبهها من حروف المعاني التي تكون على صورة حرفين فأكثر.

والنوع الثاني مثل: الباء، وكاف التشبيه، ولام الجر، وواو العطف، وما أشبهها من حروف المعاني التي تكون على صورة حرف واحد.

طريقة النوع الأول في الكتابة (وهو الذي يكون على صورة حرفين فأكثر):

أنه يكتب بالانفصال عن الكلمة التي بعده؛ لأنه كلمة مستقلة بنفسها كتابةً ونطقًا يمكن الوقف عليها دون اللجوء إلى الكلمة التي بعدها، مثل: (كنت في المدرسة)؛ يكتب (في) ثم تترك مسافة واحدة، ثم تكتب (المدرسة).

هنا (في) كلمة مستقلة يمكن الوقف عليها دون اللجوء إلى الكلمة التي بعدها، يمكننا أن نقول (كنت فيْ) ثم نقول (المدرسة).

والمراد بإمكانية الوقوف على الكلمة:

أن الوقف في العربية يكون بالتسكين؛ فإن كان عندك حرفان فأكثر فإنه لديك حرف يمكنك تحريكه لتنتقل منه إلى حرف آخر تقف عليه بالسكون؛ فتظهر بذلك هُوية الكلمة الموقوف عليها، وأما الحرف الواحد فلا تستطيع أن تقف عليه بالتسكين؛ لأنه تضيع بذلك هُوية الحرف، وإن وقفت عليه بالحركة فهو مخالف لقاعدة العربية.

طريقة النوع الثاني في الكتابة (وهو الذي يكون على صورة حرف واحد):

أنه يكتب بالاتصال بالكلمة التي بعده؛ لأنه وإن كان كلمة مستقلة في الأصل فإنه لا يمكن الوقف عليه إلا باللجوء إلى الكلمة التي بعده، فهو وما بعده من الكلمات في حكم كلمة واحدة كتابةً ونطقًا، مثل: (كتبت بالقلم)، (رأيت زيدًا ومحمدًا).
فلا يمكن أن نقف على الباء في (بالقلم) ونقول (كتبت بْ) ثم نقول (القلم)، ولا يمكن أن نقف على الواو في (ومحمدًا) ونقول (رأيت زيدا وْ) ثم نقول (محمدًا).

والخلاصة:
أن واو العطف لا تكتب منفصلة عن الكلمة التي بعدها، بل تكتب متصلة بها كما هو في النطق؛ لأنها على صورة حرف واحد، وكل حرف من حروف المعاني يكون على صورة حرف واحد؛ فإنه يكتب متصلا بما بعده، كالباء، ولام الجر، وكاف التشبيه؛ إذ إنه لا يمكن الوقف عليه وهو منفصل مستقل بنفسه.

ولهذا السبب أضافوا هاء السكت في أمر (وفى) و(وقى) عند الوقف عليهما؛ فيقولون فيهما (فِهْ)، و(قِهْ)، وأصلهما (فِ) و(قِ).


البلد الحرام – الأربعاء 1437/5/8هـ

هل كتابة كلمة "الروهنجيا" بالجيم عمل قديم أم حديث؟



ذكر أحد الإخوان أن وضع الجيم في كلمة "الروهنجيا" من فعل بعض من خرجوا الآن للعمل لنصرة القضية –أي استخدمت الجيم في هذه الكلمة منذ حوالي عشر سنين أو أقل على حد زعمه-، وإلا فالأصل هو الغين، هكذا "الروهنغيا"، وليس الجيم، كما هو مشهور حاليا.

ومن خلال بحثي عن حقيقة ما ذهب إليه الأخ وجدت أنه جانب الصواب في فيما ادعاه؛ حيث إن الجيم في هذه الكلمة " الروهنجيا " مستخدمة من قبل هذا التاريخ ...

وهذه بعض الشواهد المستخرجة من بعض الكتب التي ألفت في تاريخ مسلمي بورما قبل أن يكون لهؤلاء الموجودين في الساحة أي اهتمام أو صلة بالقضية الروهنجية:

من شواهد ورود هذه الكلمة في كتاب "المسلمون الروهنجيا ومشاكلهم الجذرية وحلها" للندوي:

1-ومسلمو أركان يسمون "رُهنجيا" منسوبًا إلى "رُهنج" وهذا تصحيف من الرهمي أو الرهمة/ الرهيمة.

2-ومن أشهر ملوكهم سلمـان شاه، الذي اتخذ من "مرغ كوه" "رُهنج" (فاتري قلعه) عاصمة له.


3-ولغة مسلمي أركان تسمى اللغة "الرهنجية" مؤلفة من كلمات وتعبيرات عربية أكثر من خمسين في المائة.

4-فدارت هناك معارك عنيفة راحت ضحيتها ما يزيد على مائة ألف مسلم "رهنجيا" بمؤامرة من البوذيين "المـغ".


5-وإن هذه الأعمال الإجرامية ضد المسلمين "الرهنجيا" قد ارتكبها البوذيون "المغ" عمدا للتصفية الجسدية والتطهير العرقي.

6-بأن هذه الأعمال البشعة ليست من الفتنة الطائفية، بل القتل الجماعي للمسلمين "الرهنجيا" بوحشية وقسوة و بدم بارد وبمؤامرة مسبقة.


7-وبعد انسحاب البريطانيين من أركان وبورما إبان الحرب تمتع المسلمون "الرهنجيا بالحكم على أركان الشمالية بما فيها منطقة "مونغدو" و"بوثيدنغ" و "راثيدنغ".

8-وفي هذه الأثناء جرت مفاوضات بين حكومة المسلمين "الرهنجيا" ومسئولي الحكومة البريطانية، واتفق الجانبان على اتفاقية تنص الاعتراف بحكومة المسلمين "الرهنجيا" ولجنتها الأمنية من قبل بريطانيا، كما اعترفت بريطانيا بأن منطقة أركان الشمالية منطقة المسلمين "الرهنجيا" الوطنية، وهي منطقة مستقلة لا ترجع إلى مناطق أخرى.

ومن شواهد ورودها في كتاب (مسلمو أراكان وستون عاما من الاضطهاد) للشيخ عبد الله نذير:

1-في قائمة الموضوعات: حركات المسلمين الروهينجة التحريرية بأراكان ودورها.

2-أغلبهم من المسلمين (الروهينجيا، وهم سنيون على مذهب أبي حنيفة). ص (11).


3-لم يقف المسلمون الروهينجيون مكتوفي الأيدي. ص (14).

4-في مقدمة الطبعة الأولى التي كتبها الشيخ عام (5-5-1422هـ): لم تصل أخبار المسلمين الروهينجيين إلى الكثير من المسلمين. ص (30).


5-(والمسلمين الروهانجيين بخاصة) في المقدمة نفسها. ص (32).

6-أن مسلمي كيكتو ينقسمون إلى قسمين: القسم الأول: يعرفون بــ(ثابت روهينجا)، أي (روهينجيا القدامى) ... القسم الثاني: يعرفون بــ(أنوك رهينجا)، أي (المهاجرين الروهينجيين). ص (95).

ومن شواهد ورودها في كتاب (المسلمون الروهينجيون في أراكان) لنور الإسلام، وتاريخ طباعة الكتاب (1406)، وهو بداخل مجلة تابعة للندوة العالمية للشباب الإسلامي، واسمها (الأقليات المسلمة في العالم):

1-ينحدر مسلمو الروهينجيا مباشرة من أصول مغربية وفارسية وتركية وبنغالية. ص (609).

2-... تمثلت في جماعة متماسكة من الروهينجيين المستمسكين ... ص (609).


3-كان مسلمو الروهينجيا في أراكان يشكلون ... ص (610).

4-... بعد ذبح الروهينجيين ... ص (623).

وهناك شواهد أخرى، لكن ما ذكرته يكفي لتفنيد الرأي الذي تمسك به أخونا، وإثبات أن استخدام الجيم في الكلمة عمل قديم، وأقرب دليل على صحة ما قلنا أن عنوان كتاب نور الإسلام (المسلمون الروهينجيون في أراكان) وردت فيه الكلمة بالجيم، وهو مطبوع منذ ثلاثين سنة تقريبا.



الخميس 18-10-1435

ولا تزر وازرة وزر أخرى



إن الله -سبحانه وتعالى- لم يخلق الناس كلهم على طبيعة وعقلية واحدة، ولا على أدب وخلق واحد، بل خلقهم مختلفين في طبائعهم وعقلياتهم، متفاوتين في آدابهم وأخلاقهم؛ منهم من هو هادئ الطبع، ومنهم من هو غضوب وسريع الانفعال، ومنهم من عقله يهذبه ويضبط سلوكه، ومنهم من عقله يوقعه في المهالك، ومنهم من خلقه عظيم يضرب به المثل في حسن الأخلاق، ومنهم من يحذر منه ومن مجالسته لسوء خلقه.

وكما أنهم مختلفون في الطبائع والعقليات والأخلاق فهم كذلك مختلفون في نفوسهم التي بين أجنابهم؛ فمنهم من نفسه علوية ملائكية، لا يصدر منها إلا كل خير، ومنهم من نفسه سفلية شيطانية، لا يصدر منها إلا كل شر، ومنهم من نفسه بين هذه وتلك.

ومن هنا أصبح هناك أخيار وأشرار، وصالحون وطالحون، وهم موجودون في كل بيئة وفي كل مجتمع، وفي كل مدينة وفي كل بلد، وفي كل قبيلة وفي كل جنسية.

والنفس الشريرة من البشر ظهرت منذ زمن آدم –عليه السلام-، بل إنه سُجل أول جريمة قتل في تاريخ البشر باسم أحد أبنائه.

بل كان طرفا الجريمة كلاهما ولدين من أولاد آدم –عليه السلام– وهما هابيل وقابيل؛ فحسد قابيل أخاه هابيل وقتله، وذنب هذه الجريمة لم يتحمله آدم –عليه السلام-؛ لكونه أبا القاتل، ولا المقتول هابيل لكونه أخاه، وإنما الذي تحمله مَن أقدم على القتل، ولو كان المنطق الذي يروجه بعض الناس صحيحًا، وهو أن المجتمع كله يصبح مجرمين بارتكاب أحدهم جريمة؛ لأصبح أبونا آدم مجرما ولصرنا كلنا مجرمين، لكن الأمر ليس كذلك، وهو منطق لا يقبله عقل ولا شرع.

ومن هنا نعرف خطأ من ينسب جنسية كاملة إلى الإجرام -في زماننا هذا- بسبب إجرام بعض أفرادها؛ نرى أنه إذا ارتكب شخص من جنسية ما جريمة معينة يتهمون تلك الجنسية كلها بأنها جنسية مجرمة فاسقة لا تستحق العيش بيننا، والأمر كذلك أيضا إن رأوا شخصا معينا من قبيلة ما، وهؤلاء الذين يعاملون الناس بهذا المنطق يناقضون أنفسهم عندما تصدر الجريمة من أحدهم؛ فيتبرأون منه ويقولون هو من يتحمل ذنبه، ونحن ليس لنا فيه ناقة ولا جمل!

أين يذهب هذا المنطق الثاني عندما يعاملون غيرهم في مثل تلك المواقف والصور؟ لماذا الكيل بمكيالين، مكيال لهم، ومكيال لغيرهم؟ لماذا يختلف الحكم مع اختلاف الجنسية أو القبيلة مع أن الجريمة واحدة، والصورة واحدة؟

يجب أن نعلم أنه لا يجوز لنا أبدا أن نحمل شخصا وزر شخص آخر فنعاقبه بناء عليه وإن كان أخاه أو صديقه أو من قبيلته، أو من جنسيته أو من دولته، إلا في حالة أنه كان مشاركا له في ذنبه بتأييد أو بالسكوت عنه رغم علمه بذلك، أو بأي بصفة يصح أن يحكم بها عليه أنه مشارك له، يقول الله –سبحانه-: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، قال الطبري في تفسيرها: (يقول: ولا تأثم نفس آثمة بإثم نفس أخرى غيرها، ولكنها تأثم بإثمها، وعليه تعاقب، دون إثم أخرى غيرها).


الأحد 28 – 10 -1435

مثقفونا مع الرأي المعارض وصاحبه



أرى أن أغلب شبابنا ومثقفينا ينزعجون من الرأي الآخر، ويجعلون صاحبه عدوا أو شخصا مكروها خارجا عن الجماعة، يجعلونه منبوذا في المجتمع بمجرد إبدائه رأيا غير الرأي المتداول، والذي صدر من علية القوم، أو ممن يكون لهم قداسة أو مكانة خاصة في المجتمع.

في كل رأي من الآراء التي تكون في أمور المصالح العامة، والتي يصح فيها الاجتهاد يوجد هناك في الغالب مؤيد، ومعارض، ومتوقف بسبب عدم وضوح الصورة لديه أو لأسباب أخرى.

فالمؤيد قد يبدي تأييده بصورة أو بأخرى، وقد لا يبدي، وهو حر في كل ذلك ولا يلام؛ إلا إن توقفت عليه مسألة ترجيح إحدى الكفتين على الأخرى؛ فإنه يتعين عليه إبداء الرأي حينئذ.

والمتوقف لا شك أنه يظل ساكتا إلى أن يظهر له صواب أحد الرأيين وخطأ الآخر.

ويبقى معنا الآن من له معارضة للرأي المطروح، وهو يكون على قسمين:

القسم الأول: تكون معارضته ليست لسبب يعود إلى الرأي، وإنما إلى صاحب الرأي، وهذا مهما تكلم، ومهما نظّر وقعّد لتفنيد الرأي المطروح فإنه لا يعتد بمخالفته؛ لأن دافعه في ذلك كله هو الأمور الشخصية، وليس لخلل في الرأي؛ فمثله عليه أن يتقي الله –تعالى-، وألا يربط الأمور الشخصية بالأمور التي تكون للمصالح العامة، وكذلك يجب على المعني بالأمر أن يرمي نقده عُرض الحائط.

القسم الثاني: تكون معارضته لسبب يعود إلى الرأي، وليس لخلل في صاحبه، وهذا على ثلاثة أنواع:

النوع الأول: يبدي معارضته، ويكون ذلك شفهيا، أو كتابيا، أو تلميحا، وإن كان ذلك يضره في مصالحه الخاصة؛ لأنه يرى الأهم هو الصدق والأمانة ومراعاة المصلحة العامة، وإن كان ذلك على مصلحة نفسه، ومثل هذا لا شك أنه يكون شجاعا ومتغلبا على عاطفته.

وعلى المعني بالأمر أن يعتد بمعارضته والأخذ بالأنفع للمصلحة العامة.

كما لا يجوز للمعني بالأمر أن يرفض نقده بمجرد أنه أساء الأدب، ولم يحسن أسلوب النقد، أو لأنه شخص مكروه، أو لانتمائه إلى جماعات معارضة؛ لأن قبول هذا الرأي بغض النظر عن صاحبه؛ هو ما ينفع المصلحة العامة، ورفضه وقبول الآخر يضر المصلحة العامة.

النوع الثاني: لا يبدي معارضته مع أن الرأي المطروح في نظره مخالف للحق وللمصلحة العامة.

 وعدم إبداء معارضته يعود لأسباب ليست شرعية، وأيضا ليس مراعاة للمصلحة العامة، وإنما لأجل:

- أن صاحب الرأي المطروح شخص مقدس لديه.

- أو أنه صاحب مكانة في المجتمع؛ فمخالفه يكون عرضة للنبذ والإسقاط من قبل أتباع ذلك الرجل.

- أو لأنه صديق له.

- أو لأنه صادر من الحزب الذي ينتمي إليه.

- أو لأنه رجل ينتفع منه في أموره الخاصة؛ فمخالفته تحول بينه وبين ذلك الانتفاع.

- أو لأنه صاحب علاقات خاصة؛ فبإمكانه أن يضر مخالفه باستعانته بتلك العلاقات.

- أو لأنه تقلد منصبا قد يمكنه استخدام ذلك المنصب في الإضرار بمن يريد، وإن وضع لنفع الناس، وليس للإضرار بهم.

ومثل هذا النوع كثير في مجتمعنا، يرى الواحد منا أن كلام فلان في المصلحة العامة خطأ وباطل، لكن لا يخالفه ولا ينكر عليه، أو يرى أن الفعل الذي أقدم عليه فلان قد يضر بالمجتمع؛ فلا ينكر عليه، أو يرى أنه يقوم بتضليل الرأي العام فيشهر بفلان في المحافل، ويتهمه بأمور باطلة وغير معقولة، وهو تصرف غير مقبول شرعا وعرفا، إضافة إلى ما فيه من الكذب والبهتان، فلا ينكر عليه ولا يبدي معارضته لتلك التصرف رغم تيقنه أن ذلك خطأ، وأن الناس يخدعون به وبما يلقي عليهم؛ فيأخذوا في الأذهان تصورا باطلا.

هذا النوع لا يبدي ما في نفسه من المعارضة رغم الضرورة والحاجة، بل يلزم السكوت، بل يكون مستعدا لأن يقول للناس غير الحقيقة؛ فيجعل الحق باطلا، والباطل حقا متى ما احتاج إلى ذلك لتحقيق مصالحه!!

مثل هذا الشخص لا يعتمد عليه في المجتمع، ولا ينتظر منه أي نفع في الأمور الحاسمة والمصيرية؛ لأنه صاحب هوى وعاطفة، وصاحب مصالح ومنافع، لا صاحب مبادئ وقيم؛ فيقول ويحكم بما يملي عليه هواه ومصالحه الشخصية، ولا يستبعد أن يصدر منه موقف في الليل معارض لموقفه الذي كان في الصباح في المسألة نفسها وفي اليوم نفسه، ومثله دوما يكون ذيلا وعبدا لغيره، وقابلا للشراء والبيع في أي وقت وزمان وفي أي سوق وبقالة.

ويوجد هذا الصنف –للأسف- في كل طبقات مجتمعنا من العامة والمثقفين والدعاة وطلبة العلم والكهول والشيوخ من المسنين.

النوع الثالث: لا يبدي معارضته رغم علمه بخطأ الرأي المطروح، ويكون لأسباب شرعية، أو مراعاة للعامة.

وهذا شيء محمود بشرط ألا تحصل فيه مفسدة أكبر في حال سكوته وعدم إبداء موقفه تجاه الموضوع.

ويوجد هذا النوع نادرا في مجتمعنا.

الخلاصة:
علمنا مما سبق أن من يعارض رأينا أو رأي متبوعينا ليس بالضرورة أن يكون دافعه في كل حين الحقد والعداء والانتقام، أو الاستهزاء والاستخفاف بنا أو بمتبوعينا، بل يصح أن يكون دافعه صحيحا ومحمودا؛ فلذا ينبغي لنا أن نحترم الرأي المعارض، وألا ننزعج منه وندخل في نيات صاحبه ونحكم عليه بالضلال والفساد والشذوذ.

وعلمنا كذلك أن سكوت الناس عن رأينا ليس بالضرورة أن يكون دليلا على رضاهم به وموافقتهم لنا، بل يصح أن يكون نفاقا، أو خوفا من فوات مصلحة خاصة، أو مداهنة، أو بدافع العاطفة، أو تعظيما لمتبوعه.


وليعلم أن التنفير من المعارضة ولو كانت في محلها يولد التبعية المطلقة والتقليد الأعمى، والسكوت عن القول المخالف أو الفعل المخالف قد يصنع طغاة وجبابرة ومستبدين بالآراء في المجتمع.

هموم مدرس متطوع!


يصحو باكرًا كلَّ صباح، يستفتح ساعاتِ يومه المباركة بسنة الفجر، التي هي أفضل من الدنيا الفانية وما فيها من مُتَعها وزخارفها الزائلة، يعود إلى أسرته بعد أداء الفرض مع المصلين ومعه وجبة الإفطار، يتناولها مع زوجته وابنته وابنه اللذين لم يتجاوزا سن الطفولة، ثم يجهز حقيبته ... يضع فيها قرطاسه الذي يُعِد فيه الدروس التي يلقيها أمام الطلاب في مدرسته ... ويذهب إليها وكلُّه أمل وطُموح في أن يؤدي واجبه التعليمي على أكمل وجه؛ إرضاء لله – تعالى -، ورغبةً في إعداد جيل واعد من بني قومه يكونون مشاعل المستقبل، ورواد العلم والمعرفة، وقادة الأمة الروهنجية ... يقودون أبناءهم إلى فتح بلادهم، وتحريرها من أغلال البوذية الظالمة ...

تلك حاله كلَّ يوم، وتلك رسالته كلَّ صباح، يؤدي واجبه على أفضل وجه، رغم أنه لا يتقاضى إلا مكافأة يسيرة من مدرسته ... يغطي بها بصعوبة التزاماتِه المالية كلَّ شهر، وربما يختفي هلال ويظهر آخر جديد وهو حامل بعضَ الديون التي تثقل كاهلَه ...

يؤوب إلى داره من التدريس وهو ينتشي فرحًا وسرورًا؛ حيث استطاع أن يبذل بعضا مما منحه الرب –تعالى- من العلم والمعرفة، ويرسم البسمة في وجوه تلاميذه بإنارة أفكارهم، وتهذيب سلوكاتهم، وتنمية قدراتهم، وهم أيضًا قد أحبوه وتعلقوا به؛ لحسن خلقه وتواضعه الجم، وحرصه عليهم حرصَ الآباء على فِلْذات أكبادهم ...

والحياة هذه لا تبقى على حال واحدة، يومًا تناولك حلاوتها، وأيامًا تذيقك المر والعلقم؛ فقدر الله –تعالى- أن تظلم الدنيا في وجهه، ويطلق الشقاء والبؤس عليه بعض رصاصاتهما الجارحة ... كان يعود من صلاة الفجر حاملًا وجبة الإفطار، والآن يعود خاوي اليدين، يستحي أن يراه طفلاه وهو لم يجلب لهما شيئًا كعادته؛ فيتوارى عنهما ويذهب إلى مدرسته قبل الوقت المعتاد، صاحب الشقة يطرق بابه صباحَ مساءَ يريد الأجَر الشهرية، وتراكمت عليه الفواتير الكهربائية، اُضطر إلى إلغاء بعض الوجبات الأساسية من برنامج التغذية في منزله وحرمان نفسه وأولاده إياها، وكان يحمل بعض الهدايا في فصله الذي يشرف عليه ويحب الطلاب الذين فيه أكثر من أبنائه، لكنه لا يستطيع فعل أي شيء الآن، حتى المهام المطلوبة منه يحس أنه يحصل فيها قصور كبير منه لكثرة همومه، ويرى أن مستوى طلابه في تراجع لافت!

ولسان حاله:

"يا إلهي ... ما الحل؟ انقطعت الرواتب قريبًا من فصلين دراسيين، ولا أرى أي أمل يلوح في الأفق، هل أقدّم ورقة استقالتي وتكون بها كتابة الفصل الأخير بيني وبين طلابي الذين ربيتهم وغذيت عقولهم بالمعرفة والعلوم؛ لأحقق بهم أهدافي في خدمة قضيتي وتحرير بلادي، ولا أدري ماذا تكون حالهم بعد ذلك ... أيستمرون، أم ينقطعون بهجرة المدرسين مثلي لسوء الأحوال والظروف، أم أصبر على هذا الوضع شهورًا أخرى أيضًا حتى يفرج الله –تعالى- كربتي وكربة زملائي؟!

إن استمررت فماذا تكون حال أهلي وعيالي، وكيف أشرح وضعي لصاحب الشقة حين يأتي ويطرق بابي صباحَ مساءَ؟!

أسأل الله – تعالى - أن يهيئ لنا رجلًا رشيدًا يشخص الأزمة الراهنة؛ فيوجد لها حلًا يكون به علاج لمشكلة مكافآتنا التي كانت قوتَ عيالنا، وأجرةَ مساكننا، وإنقاذٌ لطلابنا الذين نحبهم من الضياع والتشرد".


البلد الحرام – الاثنين 1438/5/6

المسلمون تتكافأ دماؤهم


وسائل الإعلام المختلفة في حالة استنفار شديد، والأقلام الشعرية والنثرية في جري وحركة غير مسبوقة، والمنابر تعالت أصواتها وزادت صرخاتها المجلجلة؛ لطفل مسلم مضطهد لم يجد رحمة في أرض البشر؛ فارتمى في أحضان البحر، فسمع شكواه، واستوعب معاناته، وأدرك ما يحس به من أوجاع وآلام، وظلم واضطهاد أمام مرأى العالم ومسمعه دون أن يجد مشفقا يمد إليه يد العون، وينفض من رأسه غبار العناء، ويمسح من عينه دموع الشقاء، فأشفق عليه كثيرا، ولم يلبث أن استقبل روحه البريئة وأسلمها إلى بارئها الرحمن الرحيم، إلى من رحمته وسعت كل شيء  ...

إن حالة هذا الصغير البائس الذي فاضت روحه الطاهرة إلى خالقها؛ لا شك أنها تستفز المشاعر الراكدة، وتحيي الضمائر الميتة، وتحرك الأقلام الساكنة؛ فإذًا لم تكن هذه الهبة والصحوة من أطياف مختلفة من المجتعات والدول مع هذه الحالة؛ إلا أمرا طبيعيا لا نحتاج فيه إلى أن نقف وِقفة دهشة واستغراب ..

لكن الذي يحير الحليم، ويجعل العاقل مجنونا هو أن هناك في بورما يتكر مثل هذه الحالات بصفة يومية، وبصورة أبشع وأشنع من هذه؛ ومع هذا لا تحظى بعُشر هذا الاهتمام من الشعوب والدول، ولا بمثل هذا التركيز من قبل الإعلاميين والشعراء والأدباء!!

هناك مئات في بورما من الأطفال يحرقون وهم أحياء، وتحوّل الرجال والنساء إلى أشلاء ممزقة، وجثث متناثرة، والجهات المعنية تنقل أحداثها، وتنشر تفاصيلها وتوصلها إلى كل الغيورين من المسلمين، لكن لا حياة لمن تنادي، والمعنيون في سبات عميق، وخيرهم من استعاذ وحوقل، أو أرسل لهم حفنة من المال تغيث بعضا منهم!


إن هذا التفاعل الكبير من قبل شعوب العالم مع حالة طفل البحر البريء، والاستنفار الإعلامي والكتابي؛ لأمر يثلج الصدور، ويجلب السرور، فنريد أيضا أن تحظى مآسي المسلمين في بورما ولو بعشر هذا الاهتمام من قبل هؤلاء الذين يملكون هذه الإنسانية والحرقة الدينية؛ فالمسلمون في هذا العالم تتكافأ دماؤهم، ولا فرق بين من يسكنون مشارقه وبين من يسكنون مغاربه، فكلهم ربهم واحد، ونبيهم واحد، ويتبعون دينا واحدا، وهو الإسلام، وعليكم السلام.

حقيقة صاتغام (شيتاغونغ)


يقول ولاية حسين في كتابه "مآسي المسلمين ص 31": "إن نهر (ناف) حد فاصل بين أركان الإقليم الغربي الشمالي لبورما، وبين (صاتغام) التي هي منطقة شرقية جنوبية لبنغلاديش ...".

ثم قال في (ص 32): "والحق أن (صاتغام) جزء من أركان –أي من حيث الجغرافيا- قطعها الاستعمار البريطاني من أركان، وضمها مع بنغلاديش للمصالح السياسية؛ وأما قبل ذلك فكانت (صاتغام) جزءا من أركان سياسيا أيضا، والأدلة على ذلك:

1-أن سكان (صاتغام) مشتركون مع سكان أركان في كثير من الأمور اشتراكا تاما، منها: اللسان، ومنها الأوضاع والأقطاع الجسمانية، ومنها الأشكال والصور، ومنها الحضارة والثقافة.

وأهل (صاتغام) لا يشابهون أهل بنغال الأقحاح في شيء ما خلا الإنسانية؛ ومن ثم ينفصل البنغالية عن الصاتغاميين.

2-أن أسماء كثير من مواضع وأمكنة (صاتغام) باللغة البورمية.

3-توجد آثار البوذيين القديمة كالمعابد والمديريات والغدران المنسوبة إلى أصحابها البوذيين.

4-أن البوذيين الناطقين باللغة البورمية كثير في شتى مقامات (صاتغام) ونواحيها؛ وخاصة في جبالها وسواحلها.

5-من أقوى الأدلة كلها شهادة التاريخ، وهي: أن بريطانيا لما حاول الاحتلال ببنغال ثم بأركان بعد أن قبض على الهند؛ وجد البوذيين متسلطين على المناطق الجنوبية الشرقية من بنغال؛ حيث تقع منطقة (صاتغام)، فحارب البوذيين، وكان أكبر الضباط البوذية ضابطا معروفا بـ(مها بندولا) قد حارب بريطانيا دفاعا عن القوم والوطن، واستنكارا للسلطة الأجنبية، وكانت هذه المحاربة (برامو) بجانب (كاكس بازار) قاعدة المناطق الجنوبية الشرقية لبنغال؛ وانتهت الحرب بانهزام البوذيين، فطردهم بريطانيا من هذه المنطقة، وجعل فيما بعد بكثير من الزمان نهر (ناف) حدا فاصلا بين أركان وبنغال، وكانت بنغال وأركان زمنا طويلا تحت انتداب بريطانيا بلا حد فاصل بينهما.

6-وعندي دليل سادس، وهو: أن الخريطة القديمة لأركان ممتدة إلى ما بعد نهر ناف، والنهر كله في داخل أركان".

تعليقي على ما سبق:
أننا نستفيد من هذه المعلومة ما يأتي:

1-أن أراكان حاليا مقسمة على قسمين أراكان البورمية، وأراكان البنغالية.

2-أن الناس الموجودين في أراكان البنغالية هم أركانيون مثلنا، لا فرق بيننا وبينهم سوى الحد السياسي الذي وضعوه مؤخرا؛ ولذا أخطأ من أبعدهم عنا في النسبة وجعلهم من البنغاليين الأصليين.

3-من ذهب إلى تلك المناطق التي بقرب نهر (ناف) صح أن يقال: إنه ذهب إلى أراكان، وإلى نهر من أنهار أراكان.

4-من اشتاق إلى رؤية أركان، وأراد شم تربتها، وتكحيل عينيه برؤية خضرتها وجمالها الساحر؛ فإنه قد يحقق شيئا من رغبته بذهابه إلى تلك المناطق التي بقرب نهر (ناف).

منبع الهدايات (2)



ما دام أن الله –سبحانه وتعالى- جعل هذا البيت الحرام هدى للعالمين، ومنبع الهدايات، ومكان وفود الناس إليه من كل أنحاء العالم لتلقي الهدى؛ فإنه من الضروري أن يكون مجتمع البلد الحرام قدوة المجتمعات في العالم، لا بد لهذا المجتمع أن يكون النموذج الأمثل في الاهتداء بهذا البيت، لا بد أن يكونوا هاديا مهتديا، يجب أن تتمثل الهداية فيه وتجري آثارها في عروقه؛ فهو قبلة المجتمعات كما أن البيت الحرام قبلة للناس؛ فكل فرد من سكان البلد الحرام يجب عليه أن يعي هذا، يجب عليه أن يعلم أنه –ما دام في هذا المكان- لا بد أن يمثل دور القدوة في امتثال أوامر الله، واتباع سنة النبي –صلى الله عليه وسلم–، وفي التمسك بالأخلاق الجميلة، والآداب الكريمة، والخصال الحميدة التي دعا إليها كتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم-؛ فالمسؤول في البلد الحرام ليس كأي مسؤول في غير البلد الحرام، وكذلك إمام المسجد، والخطيب، والطبيب، والمدرس، والطالب، والشرطي، والعامل، والعمدة، والموظف، والأب، والأم؛ فلا بد أن يكون كل واحد منهم قدوة حسنة في مجاله، وإماما صالحا في مهمته؛ لتكتمل بذلك صورة المجتمع القدوة الذي يقود جميع المجتمعات في هذا العالم الفسيح إلى الهدى والخير، والصلاح والرشاد.

وقد رتب الشارع الحكيم على اهتداء الناس ببيته الحرام وامتثالهم للأوامر التي جاءت لتفعيل هدى البيت؛ جزاء كريما حسنا، ويتمثل في البركة، والقيام، والأمن.

فمن البركة التي يثمرها تفعيل دور الهدى ببيت الله الحرام الحصول على الأجور الكبيرة في الأخيرة، مثل حج بيت الله الحرام، وقد ثبت أن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، ومن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ومثل الصلاة في المسجد الحرام، وقد ثبت أن الصلاة الواحدة فيه تعدل أكثر من مئة ألف صلاة فيما سواه.

ومن البركة ما يحصل كذلك من اجتماع الناس في مكان واحد، وما يتبع ذلك من تبادل المصالح والخبرات وانتشار العلم بدين الله –عز وجل– بعد أن يلتقي المسلمون بكبار علمائهم الذين يأتون لحج بيت الله الحرام وزيارته.

وأما القيام فهو ظاهر؛ حيث يحصل بتفعيل هدى البيت قيام أديانهم، وأبدانهم، وأموالهم، ومدنيتهم، يقول ابن عاشور: "إنَّ الكعبة كانت قيامًا للناس وهم العربُ؛ إذ كانت سبب اهتدائهم إلى التوحيد واتّباع الحنيفية، واستبقت لهم بقية من تلك الحنيفية في مدة جاهليتها كلها لم يعدموا نفعها".

وقال ابن شهاب: "جعل الله البيت الحرام والشهر الحرام قيامًا للناس يأمنون به في الجاهلية الأولى؛ لا يخاف بعضهم بعضًا حين يلقونهم عند البيت أو في الحرم أو في الشهر الحرام".

وقال ابن عاشور: "وكان وجود هذا البيت عائدًا على سكان بلدها بفوائد التأنس بالوافدين، والانتفاع بما يجلبونه من الأرزاق، وبما يجلب التجار في أوقات وفود الناس إليه؛ فأصبح ساكنوه لا يلحقهم جوعٌ ولا عراءٌ".

قال المهايمي: "جعله الله مقام التوجّه إليه في عبادته للناس المتفرقين في العالم؛ ليحصل لهم الاجتماع الموجب للتآلف الذي يحتاجون إليه في تمدنهم، الذي به كمال معاشهم ومعادهم؛ لاحتياجهم إلى المعاونة فيهما".

وأما الأمن فكما ظهر ذلك من كلام ابن شهاب سابقا، ويشير إليه كذلك قوله –سبحانه-: (ومن دخله كان آمنا) قال أهل العلم: "أي أمنوه من القتل"؛ فمن ثمرات تحقيق هدى البلد الحرام ما يحصل فيه من الأمن الذي يعيش الناس في ظله عيشة السعداء المطمئنين؛ فلا يخشون من مجرم قاتل وغادر، ولا من ناهب ولا سارق، بل حتى الطير والبهائم تسلم فيه من الصيد والقتل، بل حتى من التنفير من أماكنها!


حفظ الله مكة المعظمة من كل سوء ومكروه، ووفق جميع المسلمين لأداء حقها الواجب عليهم من التعظيم والتبجيل، والإجلال والتقدير.

البلد - الخميس 1438/1/19

منبع الهدايات (1)



إن الإنسان في هذا الكون لا بد له من هداية إلى الله –سبحانه وتعالى-، وإلى دينه وكتابه ورسوله –صلى الله عليه وسلم-، وإلا فإنه يكون تائها في هذه الحياة، عائشا في عمى وضلال مبين.

وإن مجرد شعوره بالحاجة إلى الهداية يبين ذلك علاقته ببيت الله الحرام؛ إذ إنه منبع الهدايات، فقد جعله الله هدى للناس، وفي فنائه نزل القرآن، وفيه بعث الرسول –صلى الله عليه وسلم-؛ فهما كذلك هاديان انطلقا من هذا البيت، وفيه كذلك نشأ الإسلام ونبتت النبتة الأولى للمسلمين، وغذيت فيه تعاليم الدين حتى تمكن الإيمان من قلوبهم وانتشروا إلى أرجاء العالم فانتشر الإسلام بانتشارهم؛ إذًا منبع الهدايات هي البلد الحرام؛ فيه الهداية المكانية، وهي البيت الحرام.

وفيه أول نزول للوحي، وهو هداية الكتاب.

وفيه بعث الرسول –صلى الله عليه وسل -، وهو هداية الإنسان.

ومنه انطلق الإسلام، وهو هداية الأديان؛ فاجتمعت فيه أربع هدايات.

إذًا كل قضية فيها هداية فإنها ترتبط تلقائيا بالبلد الحرام؛ لأنه منبع الهدايات في هذه البسيطة؛ ويعني ذلك أن الإنسان المريد للهداية يجب أن يبقى مرتبطا بهذا البيت؛ وكلما يقترب إليه يزداد هدى، وكلما يبتعد عنه ينقص من الهدى الذي اكتسبه قدر ابتعاده عنه، ويستمر في النقصان حتى يصل إلى درجة الصفر إن حصل الابتعاد كليا.

وكما جعل الله –سبحانه وتعالى– هذا البيت منبعا للهدى، جعل أمورا أخرى تقوم بتفعيل هذا الهدى؛ وهي:

أولا: الأمر بتحقيق الأمن الشرعي في البقعة المقدسة؛ ويكون ذلك بما يأتي:

1-تأمين الإنسان الذي يدخل فيها، ما دام أنه لم يرتكب شيئا موجبا للحدود والعقوبات الدنيوية.

2-تأمين الحيوان فيها من طير وبهيمة.

3-تأمين الشجر الذي يكون فيها من دون جهد فيه لآدمي.

4-تأمين مداخلها من دخول الكفار والمشركين الذين قد يفسدون فيها.

ثانيا: الأمر بتحقيق الطهر في البيت الحرام، ويشمل ذلك الطهر الحسي والمعنوي؛ فيجب تطهير البيت من جميع الأقذار الحسية، كالنجاسات من البول والغائط، والمستقذرات، كالمخاط والبصاق والقيء، وجميع أنواع النفايات والفضلات التي تؤذي الناس وتزعجهم.

ويجب كذلك تطهيره من جميع الأدران المعنوية، وهي جميع مظاهر الشرك والمعاصي؛ فلا بد من طمسها وإزالتها ومنع الوقوع فيها ابتداء، وكذلك يجب الابتعاد فيها من جميع المعاصي والمنكرات، ويتحقق ذلك بتحقيق طاعة الله فيه المشتملة على فعل الأوامر، واجتناب النواهي، سواء كان عاما في كل مكان، أو خاصا بمكة.

ثالثا: الأمر باعتبار الحرمة الخاصة بهذا البيت؛ فهذا البيت له حرمة خاصة لا توجد في بقعة أخرى في هذا الكون الفسيح، وتتمثل في ثلاث نقاط:

النقطة الأولى: أن هناك أمورا في الأصل مباحة لكنها محرمة هنا بسبب خصوصية المكان.

النقطة الثانية: أن جزاء المعصية فيه مضاعف، وإن كان ذلك كيفا لا كمًّا كما بين ذلك كثير من أهل العلم.

النقطة الثالثة: أن الهم بإيقاع المعصية فيه يعاقب عليه صاحبه، وهو أمر لا يعاقب عليه صاحبه في مكان آخر، ويشمل ذلك من هم بالمعصية وهو فيه، ومن هم بالمعصية وهو ليس فيه، لكنه هم أن يوقعها فيه.

ولئلا يكون أثر الهدى مقتصرا على البلد الحرام؛ جعل الله أمرين يعملان عمل الربط بين هدى البيت وبين الناس في العالم كافة:

الأمر الأول: جعل الله البيت الحرام مثابة للناس يفدون إليه من كل مكان في العالم باستمرار وعلى مدار العام؛ إما للزيارة، وإما للطواف، وإما للحج والعمرة، وكثير منهم لا يشبعون ولا يكتفون بزيارة أو زيارتين، بل يفدون إليه مرات وكرات؛ فهؤلاء يأتون ليتلقوا الهدى من منبعه ثم يرجعون إلى موطنهم وينشرونه هناك؛ فهذا أحد الروابط التي ربطت البيت الحرام بمن كان في خارج مكة لينتفعوا بهداه.

الأمر الثاني: جعل الله البيت قبلة للمسلمين يستقبلونه في صلواتهم ودعواتهم، وهذا كذلك رابط عظيم ربط الناس بالبيت الحرام؛ لينتفعوا بهداه كما انتفع به الساكنون فيه والوافدون إليه؛ فيتحقق بهذين الرابطين -وهما المثابة والقبلة- انتفاع الناس عامة بهداية البيت، وهو ما يشير إليه قوله –تعالى-: (وهدى للعالمين).

ويظهر من جملة (هدى للعالمين) أن هدى البيت شامل لكل الناس، وليس مقتصرا على المسلمين؛ فما كان للمسلمين واضحا كما بينا.

وأما ما كان لغير المسلمين فأظن -والله أعلم- أن اهتداء المسلمين وصلاحهم ينتفع به الكفار من حيث لا يشعرون؛ المسلمون المهتدون يمثلون نسبة كبيرة جدا في العالم، وهم منتشرون في كل مكان على هذه البسيطة، ولا شك أن أثر اهتدائهم وصلاحهم يتعدى إلى كل مجتمع يكونون فيه، وكل من عاش معهم يسمعون أذانهم الذي يرفعونه خمس مرات في كل يوم وليلة، ويرون أخلاقهم النبوية الحسنة، وعباداتهم التي يتقربون بها إلى الله –سبحانه وتعالى-، ويسمعون تلاوتهم للقرآن.

وكذلك يرى العالم بأسره تعلق المسلمين بهذا البيت يوميا في كل صلاة من الصلوات الخمس المفروضة عليهم، وسنويا في موسم الحج الذي يكون فيه أعظم مظهر من مظاهر وحدة المسلمين واجتماعهم على توحيد الله –تعالى– وطاعته؛ وكل هذا يتأثر به الكفار فيعلمون أن هناك ربا يعبد، وأن هذا الذي عليه المسلمون دينه، وأن الذي دلهم على هذا الدين هو نبيهم محمد –صلى الله عليه وسلم-؛ وهذه المرحلة الأولى التي تصل إلى الكفار من مراحل الهداية، ثم إن بعضهم يتوقفون عند هذا الحد –وهم الأغلب منهم- فيبقون على كفرهم، وبعضهم يتجاوزونها؛ فينتقلون من مرحلة لأخرى حتى يصلوا إلى المرحلة التي يكون فيها دخولهم الإسلام.


وهذه أمثلة يسيرة اتضح لنا بذلك شيء من معنى قوله –تعالى– عن البيت: (وهدى للعالمين)، ولا شك أن من يبحث أكثر سيقف على أمثلة وأدلة أخرى على حقيقة هداية البيت للناس عامة، وعلى أنها ليست مقتصرة على المسلمين.

البلد الحرام - الخميس 1438/1/19

من لهذه البائسة؟


من لأمثال هذه البائسة المسكينة التي فقدت من يعولها ويعول طفلها؟!
من لأمثال هذه البائسة المسكينة التي فقدت سكنا يحميها من أشعة الشمس الحارقة، ويدفئها من برد الشتاء القارس؟!
من لأمثال هذه البائسة المسكينة التي لا تجد ما تسد به رمقها، وتدفع به جوع وليدها، وماءً تطفئ به ظمأها وظمأ فلذة كبدها؟!

ماذا يكون شعورك لو حلت في مكانها أمك أو أختك أو إحدى قريباتك؟!
ما الذي جعل مثل هذه تجلس في الشوارع وعند بوابات المساجد في العشاء والظهيرة، ومع حر الصيف أو برد الشتاء وتمد أيديها للناس وللرجال الأجانب؟ إنه الحاجة والفاقة!

هلا شمرت يديك لتكفكف دموعها، وتكون ولدها المفقود أو أخاها الغائب الذي فقدت أملها في الحياة بفقده ... هلا شمرت يديك لتعيد لها الحياة مجددا والبسمة والسعادة ...

أخي، يا من تحمل بين جوانحك قلبا ينبض، وضميرا يحظى بالحياة الحقيقية؛ ابحث عن مثل هؤلاء البائسات، وساعدهن قدر استطاعتك، ودل عليها من يعينها.


من المقتدرين؛ فالله لا يضيع أجر المحسنين.

هل (رَزَقَ) يتعدى إلى مفعوليه بنفسه؟



من ضمن الأخطاء اللغوية التي يقع فيها بعض الكتّاب، وخاصةً كتّاب وسائل التواصل الاجتماعي؛ قولهم:(رُزِقْتُ بِمَولُود، أو رَزَقَنِي اللهُ بِمَولُود).

والصحيح: (رُزِقتُ مولودًا، أو رَزَقَني اللهُ مَولودًا)، والسبب: أن فعل (رَزَق) يتعدى بنفسه إلى مفعوليه، وليس بحاجة إلى حرف للتعدية إليهما أو إلى أحدهما، وهو مثل قولك: (أُعطِيتُ مَولودًا، أو أَعطاني اللهُ مولودًا)، ولا تقول فيه: (أُعطيتُ بمَولود، أو أَعطاني اللهُ بمولُود).

ومما يدل على أن فعل (رَزَقَ) يتعدى إلى مفعوليه بنفسه؛ قول شعيب –عليه السلام– كما حكى الله –تعالى– عنه في كتابه: (يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).

فـ(رِزْقًا) في قول شعيب –عليه السلام– مفعولٌ ثان، وقد تعدى إليه فعل (رَزَقَ) بنفسه كما ترى، والمفعول الأول الضمير المتصل في (رَزَقَنِي).

 وقال ابن منظور في لسان العرب (10/115): "وَالرِّزْقُ على لفظ المصدر: مَا رَزَقَهُ إِيَّاهُ، والجمع: أَرْزَاق ... ".

و(إِيَّاهُ) في قول ابن منظور ضمير منفصل في محل نصب مفعول ثان للفعل (رَزَقَ)، وقد تعدى إليه فعل (رَزَقَ) بنفسه، ولولا ذلك لقيل (مَا رَزَقَه بِهِ)، والمفعول الأول في الجملة هو الضمير المتصل في (رَزَقَهُ).

وقال الزبيدي في تاج العروس (8/260): "عن الكسائيّ: (أُشْهِدَ) الرَّجلُ، (مَجْهُولا: قُتِلَ فِي سبيلِ اللهِ) شَهيداً (كاستُشْهِدَ): رُزِق الشَّهَادَةَ (فَهُوَ مُشْهَدٌ)، كمُكْرمٍ ... ".

لفظ (الشَّهَادَةَ) مفعول ثان في الجملة، والمفعول الأول الضمير المستتر قبل أن يتحول إلى نائب للفاعل المحذوف، وقد تعدى (رَزَقَ) إلى المفعول الثاني بنفسه، وإلا لكان اللفظ هكذا (رُزِقَ بِالشَّهَادَةِ).

وقال ابن الأثير في النهاية (2/13): "وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ (أَنَّهُ رَزَق النَّاسَ الطِّلاَءَ، فشَربَه رجُل فَتَخَدَّرَ) ... ".

فــ(الطِّلَاءَ) مفعول ثان لــ(رَزَقَ) وقد تعدى إليه الفعل بنفسه؛ فلهذا لم يأت بلفظ (رَزَقَ الناسَ بالطلاءِ)، والمفعول الأول كما هو ظاهر كلمة (النّاسَ).

وقد أجاز بعضهم التعدية بالباء اعتمادًا على قول الخليل –عليه السلام– كما في محكم التنزيل: (وَارْزُقُهُم مِنَ الثَّمَرَاتِ)؛ فقالوا إن (رَزَقَ) هنا تعدى بـ(مِنْ)، وما تعدى بــ(مِنْ) يجوز له أن يتعدى بالباء، وهذا في نظري لا يسلّم به لأمرين:

الأول: أن (مِنْ) هنا بمعنى التبعيض، ومعنى الجملة (وَارْزُقهم بَعْضَ الثَّمَرَاتِ)، ومثله قولك: (أَعْطِ مُحَمّدًا مِن مَالِكَ) بمعنى (أَعْطِهِ بَعْضَ مَالِكَ)، و(أَعْطَى) كما هو معلوم للجميع يتعدى بنفسه إلى مفعوليه، وتعديته إليهما أو إلى أحدهما بحرف جر خطأ، ومع هذا جاز أن تقول هنا: (أَعْطِ مُحَمَّدًا مِنْ مَالِكَ)، ومعنى ذلك أن مثل هذه الأفعال يجوز أن تتعدى إلى مفعولها الثاني بــ(مِنْ) التبعيضية، لكن لا يستدل بذلك على أنه يجوز لها أن تتعدى إلى المفعول الثاني بحروف الجر مطلقا وفي كل الأحوال.

ثانيا: لو سلّم أن (رَزَقَ) يجوز له أن يتعدى إلى المفعول الثاني بــ(مِن) مطلقا؛ لما يدل ذلك على أنه يجوز أن يتعدى بالباء أيضا؛ إذ إن الباء لا تنوب عن (مِن) في كل المواضع؛ فلا يصح أن تقول: (خَرَجَ مُحَمّدٌ بِبَيتِهِ) بالباء، بدل أن تقول: (خَرَجَ مُحَمَّدٌ مِن بَيتِهِ) بــ(مِن)، وكذلك لا يصح أن تقول: (أَعُوذُ بِاللهِ بِشَرِّ الشَّيطَانِ) بالباء، بدل أن تقول: (أَعُوذُ بِاللهِ مِن شَرِّ الشَّيطَانِ) بــ(مِن).


البلد الحرام الاثنين 27 – 1 – 1436هـ