هذه
الأسطر القادمة إنما هي همسات في أذن كل تاجر أكرمه الله –سبحانه وتعالى– بنعمة
السكنى بأقدس البقاع على وجه الأرض وأطهرها وأفضلها، ألا وهي مكة المكرمة، البلد
الحرام، البلد الذي لا ينفر صيده، ولا يقطع شجره، ولا تلتقط لقطته إلا للتعريف طول
الدهر ...
وأكرمه
المولى –جلا وعلا– إضافةً إلى نعمة السكنى بالبلد الحرام؛ بأن أغناه ورزقه من خيره
وواسع فضله؛ حيث وفقه لأن يكون تاجرا يمتهن البيع والشراء على ثرى أم القرى، وبارك
في عمله هذا، وجعله باب رزقه ورزق أهله وولده ...
أخي التاجر
الكريم، إنك في فضل كبير، ونعمة عظيمة، فهناك آلاف من المسلمين يتمنون أن تكون
حالتهم مثل حالتك يعيشون كما تسكن في أفضل البقاع، ويُغنون أنفسهم وعيالهم بامتهان
التجارة والبيع والشراء، ويجعلون ذلك مصدر رزقهم وسعادتهم، لكن الله لم يكتب لهم
ذلك كما كتبه لك؛ فهل استشعرت هذا الفضل الذي أنت فيه؟ فهل أحسست بالنعم التي أنت
عليها؟
أخي التاجر
الكريم، لا بد أن تستشعر هذه النعم، وأن تقوم بشكرها وشكر مسديها –جل وعلا-؛ فتقوم
بامتثال أوامر الله فيك، بأداء الواجبات وترك المنهيات، ومن أولى الواجبات أداء
الصلوات الخمس مع جماعة المسلمين، ولا يخفى عليك أجر الصلوات في هذه البلدة
الطاهرة والمدينة المباركة؛ حيث يقول –صلى الله عليه وسلم– كما في مسند أحمد: (صلاة
في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد
الحرام أفضل من مائة ألف صلاة).
ما أوفر
حظك -أخي– وما أحسنه، تعيش في حرم الله، وتتمتع فيه برزقه وفضله، وتُكرم بأجر مائة
ألف حسنة حين أدائك صلاة واحدة، وأنت تصلي في اليوم والليلة أقل شيء خمس صلوات،
بمعنى أنك على أدنى الاحتمالات تكتسب خمسمائة ألف حسنة في اليوم من الصلوات،
والحسنة بعشر أمثالها، وصلاة الجماعة فيها سبع وعشرون درجة! الله أكبر، ما أكرمه –سبحانه-،
وما ألطفه بعباده! أيمكنك أن تنسى هذا الرب بعد أفضاله هذه عليك؟ أيمكنك أن تعصيه
وتترك أوامره بعد أن أعطاك كل هذه النعم والخيرات؟
أخي
التاجر المكي، اعلم أنك لست مثل غيرك من التجار؛ أنت تجارتك في حرم الله، وأحب
مكان إليه في الدنيا، أنت تتعامل مع أهل مكة والمجاورين لبيت الله وضيوف الرحمن من
الحجاج والمعتمرين؛ فيجب عليك أن تكون أشد حذرا من غيرك في كل صفقة بيع أو شراء،
كن حذرا من أن يحصل في صفقاتك كذب أو غش أو خداع أو غرر؛ حيث نهى الرسول -صلى الله
عليه وسلم- عن بيع الغرر كما في صحيح مسلم، أو أن يحصل هناك تطفيف في الكيل وبخس
في السلعة، يقول الله –تعالى-: (ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس
يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون)، ويقول –تعالى-: (أوفوا الكيل ولا تكونوا
من المخسرين * وزنوا بالقسطاس المستقيم)، ويقول –تعالى-: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم)،
وغش المسلم وخداعه من المحرمات، ففي صحيح مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللا فقال: (ما هذا يا صاحب
الطعام؟). قال أصابته السماء يا رسول الله، قال: (أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه
الناس، من غش فليس مني).
هذه كلها
منهيات شرعية يجب اجتنابها على كل مسلم حين البيع والشراء، لكن ذلك في حقك أوجب
وآكد -يا أيها التاجر المكي-؛ لكونك تبيع وتشتري بأرض الحرم؛ حيث يضاعف الذنب،
وتعظم المعصية أكثر وأكثر، يقول الله –تعالى-: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من
عذاب أليم)، يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "لو أن رجلًا أراد بإلحاد فيه
بظلم وهو بِعَدَن أَبْيَن لأذاقه الله من العذاب الأليم"، فإن كان المرء يعذب
بمجرد إرادته فعل الذنب في أرض الحرم دون أن يفعله؛ فكيف بمن يعصي الله فيها بخداع
أهل الحرم وزوار بيت الله والكذب عليهم وغشهم في البيع والشراء؟!
أخي
التاجر المكي، كن سمحا في بيعك وشرائك بثرى الحرم الطاهر، كن صادقا، كن ناصحا لأهل
بيت الله المقدّس؛ ليبارك الرحمن في تجارتك وزرقك، ويديم عليك النعم، ويعظم أجرك
ويكثر حسناتك، فالحسنات التي تكتسبها بمكة لا تعادلها أي حسنات أخرى تكتسبها في
غير مكة، حسنات مكة مباركة ومضاعفة، بل قال بعض العلماء: إن كل حسنة بمكة بمائة
ألف حسنة ولو كانت في خارج الصلاة.
أيها
التاجر المكي، جعلك ربك في مكان تستطيع أن تكون فيه شعلة مضيئة وقدوة خير للناس؛
فكن حسن الخلق والتعامل مع الناس، واغرس فيهم تعظيم هذا البلد الحرام بسلوكك
الجميل والعبارات التي تبين من خلالها لهم أنه لا يمكنك أن تخدعهم أو تغشهم أو
تكذب عليهم في البيع وأنت في أرض الحرم الطاهرة التي يجب ألا يصدر فيها ممن يسكنها
إلا كل فعل طيب وقول حسن، وأن يجتنب فيها كل فعل وقول لا يليق بالحرم، ولا بعظمة
المكان وقداسته، يقول الله –تعالى-: (وطهر بيتي للطائفين والعاكفين والركع
السجود)؛ وطهارة هذا البيت المقدس وحرمه تكون من كل ما لا ينبغي فعله فيه من الشرك
والبدع ومن كل المعاصي والذنوب؛ أيمكن أن يعصى الخالق الرب ويُخالف أمرُه في بيته
وحرم بيته؟!
أخي
التاجر المكي، التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى وبر وصدق؛ فكن أنت ممن
اتقى الله –عز وجل– وعظم بيت الله وراعى حرماته فيه بالتزام الصدق والنصيحة لجيران
بيت الله الحرام وعدم غشهم وخداعهم، وبعدم بيعك لهم سلعا معيبة مغشوشة مزورة، أو
بأكثر من ثمنها الذي تستحقه كما يفعله أكثر التجار الذين لا يخافون الله ولا
يحترمون حرمات الله ولا حرمات بيته الحرام والمجاورين له من العباد والصالحين.
نسأل
الله العلي القدير أن يرزقك وأهلك وولدك من فضله وواسع رحمته، وأن يجنبك الوقوع في
المحاذير الشرعية والمنهيات في بيعك وشرائك، ويبارك لك في عملك ومالك وعمرك؛ إنه
سميع قريب مجيب الدعوات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق