الخميس، 20 أكتوبر 2016

َكَلْم اللسان أنكى من كَلْم السّنان


مهما اجتهد المرء في عبودية الله –عزّ وجلّ-، ومهما جمع من الصفات الكريمة، والخصال النبيلة؛ فإنّ ذلك كلّه لا ينفعه في امتلاك قلوب الناس وكسب ودّهم إن كان مصابا في لسانه بغلظة، وفي قوله بفظاظة، كيف وقد قال الله – تعالى- لنبيه محمد –صلّى الله عليه وسلّم-: (وَلَو كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانفَضُّوا مِن حَولِك)؟!

إن كان هذا الخطاب موجهًا للنبي الكريم –صلى الله عليه وسلم– الذي جمع الفضائل، وتزيّن بخير الخصال؛ فكيف بغيره من البشر؟!

إنه ليؤسفني جدًا أن أرى كثيرًا من الناس أعطوا الجمال والكمال البشري في جوانب شتّى من صفاتهم وخصالهم، لكنّ سلاطة لسانهم هي ما يقضي عليهم، ويحجب محامدهم، ويخفي مواطن الخير فيهم، ويُنفّر الناس من مجالستهم ومصاحبتهم مع جلالة قدرهم ومكانتهم!

رأيت وقْع لسان هؤلاء على الناس، بل على إخوانهم وجلسائهم؛ أشدَّ من وقع الفأس على الرأس، لسانهم موجع مؤلم، ويشتدّ إيلامه إن كان مع غياب الوعي وفقد السيطرة على النفس.

إنّ من في قلبه تقدير لمن أمامه فإنه يختار من الأساليب أجملَها، ومن الكلمات أرقّها في حالة خطابه وأوان التحدث إليه، وإن كان ذلك في مقام عَذْل وعتاب، ونقاش وخلاف، لكنّ هؤلاء –للأسف– هم في خصام مع الأسلوب الجميل والكلمة الطيبة قبل خصامهم مع الناس؛ فمسحوها من قواميسهم مسحًا كاملًا، ويأتون إلى النقاش وكأنهم داخلون ساحة معركة، وميدان كر وفر، لا يرون من أمامهم إلا محاربًا مصارعًا، لكنه بلباس صديق مسالم، فينقضوا عليه بلسانهم انقضاضَ سَبُع على فريسة لم يُبقِ شبرًا من جسدها إلا وقد جرحه وغرز فيه مخالبه وأنيابه!

لا أدري من أيّ مادةٍ قلوب هؤلاء؛ أهي من الحجر، أم الحجر منها؟! عندما يبدأ لسانهم في السلخ -من غير تسمية طبعًا- تغيب عندهم كل المعارف والثقافات، وتطير منهم كل الشهادات، وتختفي العقول والمشاعر الإنسانية، ولا يبقى حينئذ إلا عقول ما في الغاب ومشاعره مع تطبيل الشيطان لهم وتشجيعه، ولا شك أن ذلك المشهد يكون مؤلمًا جدًا لمن حضر، وأما المسلوخ فلا تسأل عنه –الله يرحمه-!

اضبط نفسك -أخي-، وسيطر على لسانك قبل أن يسيطر عليك إن أردت خيري الدنيا والآخرة، واعلم أنه لا يكبّ الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم كما صحّ ذلك في الخبر، وربّ كلمة يقولها صاحبها يندم عليها طول الدهر، لكنّ ذلك الندم لا ينفعه بعد أن تجاوزت الكلمةُ لسانه وملكتْه، وكان قبلُ هو من يملكها.

يمكنك - أخي - العتاب بلطف ولين، يمكنك الإقناع من غير شدة ولا فظاظة، يمكنك النقاش من دون تقطيب ولا غلظة، يمكنك الحوار بهدوء ودون أن تستخدم كلماتٍ جارحة، وعباراتٍ سالخة، وألفاظ مؤذية؛ فلا تلجأنّ من غير ضرورة إلى ما هو مكروه ومنبوذ شرعًا وعقلًا وعرفًا.

إن الذي تخاطبه بهذا التصرف الشائن قد يكون أفضلَ منك، وقد يكون هو على صواب وأنت المخطئ، وقد يمتلك لسانًا وقْعه أشد إيلامًا من وقع لسانك، لكنه عملًا بالإرشادات الدينية والأخلاقية، وتذكرًا بمواقف الأخوّة وأيّام العِشرة، وحفاظًا على الود والاحترام؛ لا يعاملك بالمثل، بل يترفع عنه، ويضبط نفسه ويستمر على هدوئه وسكونه، رغم استفزازك له، وانتهاكك لحرمته، وعدم تقديرك لمكانته ومشاعره.

إنك بهذا اللّسان السليط –أخي- تبين قساوة قلبك للناس –وإن كنت متميزًا في جوانب أخرى –، وتبين سرعة نسيانك لفضل إخوانك ومواقفهم الحسنة، وذكرياتهم الجميلة، وتغيّرك عليهم بمجرد خلاف يسير، أو اختلاف في وجهة نظر؛ فكيف يكون وضعك معهم إذًا في المواقف العصيبة التي لا يثبت فيها إلا قلّة من البشر، وهم الخلّص منهم والأوفياء؟!

تجنّب –أخي- هذه الخصلة المنبوذة، وعالج نفسك بالشرع المطهّر وإرشاداته النيرة؛ فكرّر النظر متأملًا في قول الربّ -جلّ وعلا-:(وَقُل لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيطَانَ يَنزَغُ بَينَهُم إِنَّ الشَّيطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا)، و(اذهَبَا إِلَى فِرعَونَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَولًا لَيِّنًا)، وقول سيّد البشر -صلّى الله عليه وسلّم-:(الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ)، و(اتَّقُوا النَّارَ وَلَو بِشِقِّ تَمرَةٍ، فَمَن لَم يَجِد فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ)؛ تطِبْ نفسك –إن شاء الله-، ويَلِنْ قلبك، ويتجردْ لسانك من أدوات السلخ والكَلْم، فينطقَ بكلمات ملؤها الحب والشفقة، والود والاحترام، والنصح والتوجيه، بأسلوب ساحر جميل يأخذ بالألباب ومجامع القلوب، كما كان يفعل سيّد البشر –صلّى الله عليه وسلّم-؛ ولهذا قال عنه معاوية بن الحكم –رضي الله عنه–: (بأبي هو وأمّي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، والله ما كهرني ولا شتمني ولا ضربني، قال: " إنّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس هذا، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ")؛ وذلك بعد أن تكلّم في الصلاة وأنكر القوم عليه بأسلوب كان فيه نوع من الشدّة والغلظة.


البلد الحرام - الخميس 1436/11/18

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق