إن
الإنسان في هذا الكون لا بد له من هداية إلى الله –سبحانه وتعالى-، وإلى دينه
وكتابه ورسوله –صلى الله عليه وسلم-، وإلا فإنه يكون تائها في هذه الحياة، عائشا
في عمى وضلال مبين.
وإن مجرد
شعوره بالحاجة إلى الهداية يبين ذلك علاقته ببيت الله الحرام؛ إذ إنه منبع
الهدايات، فقد جعله الله هدى للناس، وفي فنائه نزل القرآن، وفيه بعث الرسول –صلى
الله عليه وسلم-؛ فهما كذلك هاديان انطلقا من هذا البيت، وفيه كذلك نشأ الإسلام
ونبتت النبتة الأولى للمسلمين، وغذيت فيه تعاليم الدين حتى تمكن الإيمان من قلوبهم
وانتشروا إلى أرجاء العالم فانتشر الإسلام بانتشارهم؛ إذًا منبع الهدايات هي البلد
الحرام؛ فيه الهداية المكانية، وهي البيت الحرام.
وفيه أول
نزول للوحي، وهو هداية الكتاب.
وفيه بعث
الرسول –صلى الله عليه وسل -، وهو هداية الإنسان.
ومنه
انطلق الإسلام، وهو هداية الأديان؛ فاجتمعت فيه أربع هدايات.
إذًا كل
قضية فيها هداية فإنها ترتبط تلقائيا بالبلد الحرام؛ لأنه منبع الهدايات في هذه
البسيطة؛ ويعني ذلك أن الإنسان المريد للهداية يجب أن يبقى مرتبطا بهذا البيت؛
وكلما يقترب إليه يزداد هدى، وكلما يبتعد عنه ينقص من الهدى الذي اكتسبه قدر
ابتعاده عنه، ويستمر في النقصان حتى يصل إلى درجة الصفر إن حصل الابتعاد كليا.
وكما جعل
الله –سبحانه وتعالى– هذا البيت منبعا للهدى، جعل أمورا أخرى تقوم بتفعيل هذا
الهدى؛ وهي:
أولا:
الأمر بتحقيق الأمن الشرعي في البقعة المقدسة؛ ويكون ذلك بما يأتي:
1-تأمين
الإنسان الذي يدخل فيها، ما دام أنه لم يرتكب شيئا موجبا للحدود والعقوبات
الدنيوية.
2-تأمين
الحيوان فيها من طير وبهيمة.
3-تأمين
الشجر الذي يكون فيها من دون جهد فيه لآدمي.
4-تأمين
مداخلها من دخول الكفار والمشركين الذين قد يفسدون فيها.
ثانيا:
الأمر بتحقيق الطهر في البيت الحرام، ويشمل ذلك الطهر الحسي والمعنوي؛ فيجب تطهير
البيت من جميع الأقذار الحسية، كالنجاسات من البول والغائط، والمستقذرات، كالمخاط
والبصاق والقيء، وجميع أنواع النفايات والفضلات التي تؤذي الناس وتزعجهم.
ويجب
كذلك تطهيره من جميع الأدران المعنوية، وهي جميع مظاهر الشرك والمعاصي؛ فلا بد من
طمسها وإزالتها ومنع الوقوع فيها ابتداء، وكذلك يجب الابتعاد فيها من جميع المعاصي
والمنكرات، ويتحقق ذلك بتحقيق طاعة الله فيه المشتملة على فعل الأوامر، واجتناب
النواهي، سواء كان عاما في كل مكان، أو خاصا بمكة.
ثالثا:
الأمر باعتبار الحرمة الخاصة بهذا البيت؛ فهذا البيت له حرمة خاصة لا توجد في بقعة
أخرى في هذا الكون الفسيح، وتتمثل في ثلاث نقاط:
النقطة
الأولى: أن هناك أمورا في الأصل مباحة لكنها محرمة هنا بسبب خصوصية المكان.
النقطة
الثانية: أن جزاء المعصية فيه مضاعف، وإن كان ذلك كيفا لا كمًّا كما بين ذلك كثير
من أهل العلم.
النقطة
الثالثة: أن الهم بإيقاع المعصية فيه يعاقب عليه صاحبه، وهو أمر لا يعاقب عليه
صاحبه في مكان آخر، ويشمل ذلك من هم بالمعصية وهو فيه، ومن هم بالمعصية وهو ليس
فيه، لكنه هم أن يوقعها فيه.
ولئلا
يكون أثر الهدى مقتصرا على البلد الحرام؛ جعل الله أمرين يعملان عمل الربط بين هدى
البيت وبين الناس في العالم كافة:
الأمر
الأول: جعل الله البيت الحرام مثابة للناس يفدون إليه من كل مكان في العالم
باستمرار وعلى مدار العام؛ إما للزيارة، وإما للطواف، وإما للحج والعمرة، وكثير
منهم لا يشبعون ولا يكتفون بزيارة أو زيارتين، بل يفدون إليه مرات وكرات؛ فهؤلاء
يأتون ليتلقوا الهدى من منبعه ثم يرجعون إلى موطنهم وينشرونه هناك؛ فهذا أحد
الروابط التي ربطت البيت الحرام بمن كان في خارج مكة لينتفعوا بهداه.
الأمر
الثاني: جعل الله البيت قبلة للمسلمين يستقبلونه في صلواتهم ودعواتهم، وهذا كذلك
رابط عظيم ربط الناس بالبيت الحرام؛ لينتفعوا بهداه كما انتفع به الساكنون فيه
والوافدون إليه؛ فيتحقق بهذين الرابطين -وهما المثابة والقبلة- انتفاع الناس عامة
بهداية البيت، وهو ما يشير إليه قوله –تعالى-: (وهدى للعالمين).
ويظهر من
جملة (هدى للعالمين) أن هدى البيت شامل لكل الناس، وليس مقتصرا على المسلمين؛ فما
كان للمسلمين واضحا كما بينا.
وأما ما
كان لغير المسلمين فأظن -والله أعلم- أن اهتداء المسلمين وصلاحهم ينتفع به الكفار
من حيث لا يشعرون؛ المسلمون المهتدون يمثلون نسبة كبيرة جدا في العالم، وهم
منتشرون في كل مكان على هذه البسيطة، ولا شك أن أثر اهتدائهم وصلاحهم يتعدى إلى كل
مجتمع يكونون فيه، وكل من عاش معهم يسمعون أذانهم الذي يرفعونه خمس مرات في كل يوم
وليلة، ويرون أخلاقهم النبوية الحسنة، وعباداتهم التي يتقربون بها إلى الله
–سبحانه وتعالى-، ويسمعون تلاوتهم للقرآن.
وكذلك
يرى العالم بأسره تعلق المسلمين بهذا البيت يوميا في كل صلاة من الصلوات الخمس
المفروضة عليهم، وسنويا في موسم الحج الذي يكون فيه أعظم مظهر من مظاهر وحدة
المسلمين واجتماعهم على توحيد الله –تعالى– وطاعته؛ وكل هذا يتأثر به الكفار
فيعلمون أن هناك ربا يعبد، وأن هذا الذي عليه المسلمون دينه، وأن الذي دلهم على
هذا الدين هو نبيهم محمد –صلى الله عليه وسلم-؛ وهذه المرحلة الأولى التي تصل إلى
الكفار من مراحل الهداية، ثم إن بعضهم يتوقفون عند هذا الحد –وهم الأغلب منهم-
فيبقون على كفرهم، وبعضهم يتجاوزونها؛ فينتقلون من مرحلة لأخرى حتى يصلوا إلى
المرحلة التي يكون فيها دخولهم الإسلام.
وهذه
أمثلة يسيرة اتضح لنا بذلك شيء من معنى قوله –تعالى– عن البيت: (وهدى للعالمين)،
ولا شك أن من يبحث أكثر سيقف على أمثلة وأدلة أخرى على حقيقة هداية البيت للناس
عامة، وعلى أنها ليست مقتصرة على المسلمين.
البلد الحرام - الخميس 1438/1/19
البلد الحرام - الخميس 1438/1/19
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق