الأربعاء، 19 أكتوبر 2016

الذامون في الليل المادحون في النهار!!


أرى أناسا عندما يكونون في غرف مغلقة ومحادثات سرية يتكلمون في بعض الناس ويعددون أخطاءهم الكارثية ويحذرون منهم ومن شرهم، لكنهم يظهرون في العلن بوجوه مختلفة تماما عما ظهروا هناك في الظلام!!

 في العلن يثنون على أولئك ثناء عاطرا، ويتلون مدائحهم ومحاسنهم، ويعددون إنجازاتهم ونبيل وقفاتهم حتى يظن السامع والقارئ أن هؤلاء ملائكة بثياب بشر يمشون في الأرض!!

مثل هؤلاء الذامين في الليل المادحين في النهار للأشخاص أنفسهم لا يخرجون من أحد أمرين:
1-أن ما ذكروه في الليل غير صحيح، بل الصحيح ما يعلنون عنه في النهار؛ فإن كان هذا هو الواقع فعليهم أن يتوبوا إلى الله ويستغفروه، ويبتعدوا عن الغيبة والكذب على الناس والبهتان، وليعلموا أن ذلك لا يفعله إلا من يتصف بخصال المنافقين، وجزاء ذلك في الآخرة معلوم لدى الجميع.

2-أن ما ذكروه في الليل من جرائم وطامات لأولئك الناس صحيح وواقع، لكنهم يأتون في النهار بوجه آخر ويتلون مدائحهم طمعا في مصالح شخصية، أو خوفا من شرهم؛ ومثل هذا الفعل لا يفعله ذو مروءة صاحب المبدأ السليم، وهم بذلك يخدعون الناس، ويحسنون صورة من يضرهم، ولم يفكروا إلا في مصالحهم الشخصية، وما عليهم إن عاش الناس أو هلكوا!


وأخرون من هذا الصنف يفعلون ذلك عندما يظهر من أفعالهم ما يستحق الإشادة به –على حد زعمهم-، وهذا خطأ؛ لأنهم لا يظهرون للناس علنا من أفعالهم إلا الخير والصالح، وأما الأخطاء الكبيرة التي تضر العامة فإنهم لم يعلنوا عنها ولا يبينوها للناس، وفي هذه الحالة لا شك أن العامة يظنون أنه لا يصدر منهم إلا كل خير، وأن ما ينسب إليهم من الأخطاء فإنه من باب تشويه سمعتهم، ومن الكذب والافتراء عليهم.

والواجب على هؤلاء أن يظهروا أخطاءهم الجسيمة التي تضر العامة كما يظهرون محاسنهم إن كان لا بد من ذكر محاسنهم؛ ليعرف الناس حجم أضرارهم وحجم منافعهم، فإن عجزوا عن ذلك فالأفضل لهم السكوت عن هذا وذاك.

وقلت (إن كان لابد من ذكر محاسنهم) لأن المقام ليس مقام ذكر محاسن المحذر منه؛ فالشخص إن ارتكب ما يوجب تحذير الناس منه؛ فإنه يجب التحذير منه بذكر جريمته التي تجعله غير مقبول عند أهل الشأن، ولا يجب على المحذر أن يذكر أيضا ما فيه من محاسن؛ لأن المقام مقام تحذير، وليس مقام سرد حياته وتاريخه، ومن أمثلة ذلك: السارق إن اشتهر على أنه يسرق فإنه يحذر منه مَن قد يخدع به فيظنه أمينا، ويتعامل معه في الأمور المالية، ولا يجب في الوقت نفسه أن تُذكر محاسنه إن كانت له محاسن؛ لأن المقام ليس مقام سرد ما لديه من أعمال حسنة وسيئة.

وأصل هذا من السنة قوله –صلى الله عليه وسلم– لفاطمة بنت قيس كما في صحيح مسلم: "أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له"، قال ذلك لما استشارته فاطمة في موضوع خطبتهما لها؛ فهنا حذرها النبي –صلى الله عليه وسل – منهما بذكر ما في كل واحد منهما من الصفات التي تكون مؤثرة تأثيرا سلبيا في الحياة الزوجية بالنسبة لفاطمة، ولم يذكر مع ذلك ما فيهما من صفات الخير؛ مما يدل على أن ذلك ليس مطلوبا في هذا المقام.

والطريقة نفسها تطبق في نقد رجال الحديث؛ فإن قال الناقد في راو (ضعيف)؛ فلا يلزمه أن يذكر معه أنه كان يقوم الليل وينفق الأموال، وإن قال في آخر (متهم بالكذب) فلا يلزمه أن يقول أيضا إنه كان كريما جوادا محبا للخير، بل يكتفي بذكر ما تسقط به أهلية قبول حديثه.

قال شيخنا الإمام ابن عثيمين –رحمه الله- في " لقاء الباب المفتوح "(61-70) (ص153 ): "عندما نريد أن نقوِّم الشخص يجب أن نذكر المحاسن والمساوئ؛ لأن هذا هو الميزان العدل، وعندما نحذِّر من خطأ شخص نذكر الخطأ فقط؛ لأن المقام مقام تحذير، ومقام التحذير ليس من الحكمة فيه أن نذكر المحاسن؛ لأنك إذا ذكرت المحاسن فإن السامع سيبقى متذبذبًا؛ فلكل مقام مقال".


البلد الحرام - الاثنين 1435/10/22
  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق