أرى أن أغلب
شبابنا ومثقفينا ينزعجون من الرأي الآخر، ويجعلون صاحبه عدوا أو شخصا مكروها خارجا
عن الجماعة، يجعلونه منبوذا في المجتمع بمجرد إبدائه رأيا غير الرأي المتداول، والذي
صدر من علية القوم، أو ممن يكون لهم قداسة أو مكانة خاصة في المجتمع.
في كل
رأي من الآراء التي تكون في أمور المصالح العامة، والتي يصح فيها الاجتهاد يوجد
هناك في الغالب مؤيد، ومعارض، ومتوقف بسبب عدم وضوح الصورة لديه أو لأسباب أخرى.
فالمؤيد
قد يبدي تأييده بصورة أو بأخرى، وقد لا يبدي، وهو حر في كل ذلك ولا يلام؛ إلا إن
توقفت عليه مسألة ترجيح إحدى الكفتين على الأخرى؛ فإنه يتعين عليه إبداء الرأي
حينئذ.
والمتوقف
لا شك أنه يظل ساكتا إلى أن يظهر له صواب أحد الرأيين وخطأ الآخر.
ويبقى
معنا الآن من له معارضة للرأي المطروح، وهو يكون على قسمين:
القسم الأول:
تكون معارضته ليست لسبب يعود إلى الرأي، وإنما إلى صاحب الرأي، وهذا مهما تكلم،
ومهما نظّر وقعّد لتفنيد الرأي المطروح فإنه لا يعتد بمخالفته؛ لأن دافعه في ذلك
كله هو الأمور الشخصية، وليس لخلل في الرأي؛ فمثله عليه أن يتقي الله –تعالى-،
وألا يربط الأمور الشخصية بالأمور التي تكون للمصالح العامة، وكذلك يجب على المعني
بالأمر أن يرمي نقده عُرض الحائط.
القسم الثاني:
تكون معارضته لسبب يعود إلى الرأي، وليس لخلل في صاحبه، وهذا على ثلاثة أنواع:
النوع
الأول: يبدي معارضته، ويكون ذلك شفهيا، أو كتابيا، أو تلميحا، وإن كان ذلك يضره في
مصالحه الخاصة؛ لأنه يرى الأهم هو الصدق والأمانة ومراعاة المصلحة العامة، وإن كان
ذلك على مصلحة نفسه، ومثل هذا لا شك أنه يكون شجاعا ومتغلبا على عاطفته.
وعلى المعني
بالأمر أن يعتد بمعارضته والأخذ بالأنفع للمصلحة العامة.
كما لا
يجوز للمعني بالأمر أن يرفض نقده بمجرد أنه أساء الأدب، ولم يحسن أسلوب النقد، أو
لأنه شخص مكروه، أو لانتمائه إلى جماعات معارضة؛ لأن قبول هذا الرأي بغض النظر عن
صاحبه؛ هو ما ينفع المصلحة العامة، ورفضه وقبول الآخر يضر المصلحة العامة.
النوع
الثاني: لا يبدي معارضته مع أن الرأي المطروح في نظره مخالف للحق وللمصلحة العامة.
وعدم إبداء معارضته يعود لأسباب ليست شرعية،
وأيضا ليس مراعاة للمصلحة العامة، وإنما لأجل:
- أن صاحب
الرأي المطروح شخص مقدس لديه.
- أو أنه
صاحب مكانة في المجتمع؛ فمخالفه يكون عرضة للنبذ والإسقاط من قبل أتباع ذلك الرجل.
- أو
لأنه صديق له.
- أو
لأنه صادر من الحزب الذي ينتمي إليه.
- أو
لأنه رجل ينتفع منه في أموره الخاصة؛ فمخالفته تحول بينه وبين ذلك الانتفاع.
- أو
لأنه صاحب علاقات خاصة؛ فبإمكانه أن يضر مخالفه باستعانته بتلك العلاقات.
- أو
لأنه تقلد منصبا قد يمكنه استخدام ذلك المنصب في الإضرار بمن يريد، وإن وضع لنفع
الناس، وليس للإضرار بهم.
ومثل هذا
النوع كثير في مجتمعنا، يرى الواحد منا أن كلام فلان في المصلحة العامة خطأ وباطل،
لكن لا يخالفه ولا ينكر عليه، أو يرى أن الفعل الذي أقدم عليه فلان قد يضر
بالمجتمع؛ فلا ينكر عليه، أو يرى أنه يقوم بتضليل الرأي العام فيشهر بفلان في
المحافل، ويتهمه بأمور باطلة وغير معقولة، وهو تصرف غير مقبول شرعا وعرفا، إضافة
إلى ما فيه من الكذب والبهتان، فلا ينكر عليه ولا يبدي معارضته لتلك التصرف رغم تيقنه
أن ذلك خطأ، وأن الناس يخدعون به وبما يلقي عليهم؛ فيأخذوا في الأذهان تصورا
باطلا.
هذا
النوع لا يبدي ما في نفسه من المعارضة رغم الضرورة والحاجة، بل يلزم السكوت، بل يكون
مستعدا لأن يقول للناس غير الحقيقة؛ فيجعل الحق باطلا، والباطل حقا متى ما احتاج
إلى ذلك لتحقيق مصالحه!!
مثل هذا
الشخص لا يعتمد عليه في المجتمع، ولا ينتظر منه أي نفع في الأمور الحاسمة
والمصيرية؛ لأنه صاحب هوى وعاطفة، وصاحب مصالح ومنافع، لا صاحب مبادئ وقيم؛ فيقول
ويحكم بما يملي عليه هواه ومصالحه الشخصية، ولا يستبعد أن يصدر منه موقف في الليل
معارض لموقفه الذي كان في الصباح في المسألة نفسها وفي اليوم نفسه، ومثله دوما يكون
ذيلا وعبدا لغيره، وقابلا للشراء والبيع في أي وقت وزمان وفي أي سوق وبقالة.
ويوجد
هذا الصنف –للأسف- في كل طبقات مجتمعنا من العامة والمثقفين والدعاة وطلبة العلم
والكهول والشيوخ من المسنين.
النوع
الثالث: لا يبدي معارضته رغم علمه بخطأ الرأي المطروح، ويكون لأسباب شرعية، أو
مراعاة للعامة.
وهذا شيء
محمود بشرط ألا تحصل فيه مفسدة أكبر في حال سكوته وعدم إبداء موقفه تجاه الموضوع.
ويوجد هذا
النوع نادرا في مجتمعنا.
الخلاصة:
علمنا
مما سبق أن من يعارض رأينا أو رأي متبوعينا ليس بالضرورة أن يكون دافعه في كل حين
الحقد والعداء والانتقام، أو الاستهزاء والاستخفاف بنا أو بمتبوعينا، بل يصح أن
يكون دافعه صحيحا ومحمودا؛ فلذا ينبغي لنا أن نحترم الرأي المعارض، وألا ننزعج منه
وندخل في نيات صاحبه ونحكم عليه بالضلال والفساد والشذوذ.
وعلمنا
كذلك أن سكوت الناس عن رأينا ليس بالضرورة أن يكون دليلا على رضاهم به وموافقتهم
لنا، بل يصح أن يكون نفاقا، أو خوفا من فوات مصلحة خاصة، أو مداهنة، أو بدافع
العاطفة، أو تعظيما لمتبوعه.
وليعلم
أن التنفير من المعارضة ولو كانت في محلها يولد التبعية المطلقة والتقليد الأعمى،
والسكوت عن القول المخالف أو الفعل المخالف قد يصنع طغاة وجبابرة ومستبدين بالآراء
في المجتمع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق