أخي
الفاضل، هذه كلمات يسيرة أردت أن أهمس بها في أذنيك نصيحةً لك، وإضاءةً لطريقك،
وتشجيعًا لك على ما أنت عليه من الخير والفضل، وتنبيهًا على بعض الأمور التي ينبغي
تجنبها، وأمور أخرى ينبغي الإتيان بها؛ فقرب إلي -أخي- سمعك فاتحًا قلبك، موسعًا
صدرك، والله يوفقك وينير دربك:
الهمسة
الأولى:
أخي
الفاضل، اعلم أن مهنة التجارة التي تزاولها هي عز للرجل وشرف له، وبها يكون كف
النفس عن النظر إلى ما في أيدي الناس، وعن انتظار دعم أو إعانة مادية من صديق أو
قريب، أو عدو أو غريب، بل بها يكون المرء هو صاحب اليد العليا، والمعطي والداعم،
والمنفق والمتبرع؛ ولهذا لم ينه الدين الإسلامي الناس عن مزاولة التجارة ولا حذرهم
منها، بل أرشدهم إليها وحثهم عليها، وسمى أرباحها فضلا من الله؛ مما يدل على مكانة
التجارة في الإسلام وأهميتها، يقول الله –تعالى-: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي
الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)، ويقول –تعالى-: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ)، ويقول: (فَإِذَا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)، ويقول –صلى
الله عليه وسلم– كما في صحيح البخاري: (ما أكل أحد طعاما قط خيرًا من أن يأكل من
عمل يده )، وفي مسند الإمام أحمد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سُئلَ: أي
الكسب أطيب؟ فقال: (عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور)، وقال المروزي: "سمعت
رجلا يقول لأبي عبد الله إني في كفاية، قال: الزم السوق تصل به الرحم وتعود به على
نفسك"، وقال أحمد للميموني: "استغن عن الناس؛ فلم أر مثل الغني عن الناس".
وسئل إبراهيم النخعي عن رجل يترك التجارة ويشتغل بالعبادة وآخر يعبد الله لكنه لا
يترك التجارة أيهما أفضل؛ فقال التاجر الأمين.
إذن -أخي الفاضل- أنت على خير كبير، تزاول مهنةً شريفةً محثوثًا عليها
ومرغبًا فيها؛ فاستمر عليها، واستعن بها على فعل الخيرات، وبذل الصدقات، وإياك وأن
تجعلها سببا لعصيان الله في البلد الحرام، وانتهاك حرماته، والتكبر على أهله
وجيرانه.
الهمسة الثانية:
أخي الفاضل، لا يخفى عليك أنك تسكن مكة البلد المبارك، البلد الذي خصه
الله بعبادات لم يشرعها في مكان آخر في الدنيا غيره، كالطواف وتقبيل الحجر الأسود،
واستلام الركن اليماني، والحج والعمرة، كما رتّب على أدائها حسناتٍ عظيمةً وأجورًا
كبيرةً، يقول –صلى الله عليه وسلم– كما في مسند أحمد: (من طاف بهذا البيت
أُسْبُوعًا فأحصاه كان كعتق رقبة)، وقال: (لا يضع قدمًا ولا يرفع أخرى إلا حط الله
عنه خطيئة، وكتب له بها حسنة)، ويقول في مسح الركنين كما في سنن الترمذي: (إن
مسْحَهما كفارةٌ للخطايا)، ويقول في حج بيت الله كما في الصحيحين: (من حج هذا
البيتَ فلم يرفث، ولم يفسق؛ رجع من ذنوبه كيومِ ولدته أمُّه)، ويقول في الحج
والعمرة معًا كما في سنن النسائي: (الحجة المبرورة ليس لها جزاء إلا الجنة،
والعمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما).
تسكن في البلد الذي بارك الله فيه وفي رزق أهله؛ حيث تجبى إليه الثمرات
الكثيرة والمتنوعة من أطراف الدنيا ونواحيها المختلفة، وتوجد فيه فاكهة الشتاء في
الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء؛ وكل ذلك من آثار استجابة الله لدعاء الخليل
إبراهيم –عليه السلام– حين دعا ربه لمكة ولأهلها قائلا: (رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا
بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ)، ومما يدل على بركة رزق أهل
مكة وطعامهم قوله –صلى الله عليه وسلم– كما في الصحيحين: (اللّهم اجعل بالمدينة
ضعفي ما جعلت بمكة من البركة).
إذن – أخي الفاضل– جعلك ربك تسكن البلدة المباركة وتزاول فيها مهنة التجارة
مهنة العز والشرف، وهذا يتطلب منك مزيدا من الشكر لله –جل وعلا – بقلبك ولسانك
وجوارحك، وأنت تعلم أن النعم تزيد وتدوم مع الشكر، وتنقص وتزول مع كفرانها، يقول
الله –تعالى-: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ
عَذَابِي لَشَدِيدٌ).
الهمسة
الثالثة:
أخي
الفاضل، كن في هذا البلد المبارك تاجرا صالحا ليبارك الله في تجارتك، وليكون ما
تكسبه من مهنتك حلالا لك ولأهلك وولدك، ولتكون لغيرك قدوة للخير والصلاح، وهاك هذه
الأمورَ التي ينبغي لكل تاجر صالح مراعاتها:
1-الصدق:
الصدق مطلب مهم للتاجر؛ فالتاجر الصدوق يكون مرضيًا عند الله –عز وجل-، ومحل ثقة
واطمئنان لدى الناس، ويكون ما يكسبه مقابل صدقه؛ بركةً له وحلالًا أكله وإنفاقه في
مصالحه، ومن باع بالكذب والتزوير فكسبه حرام، ويبعث يوم القيامة فاجرًا من الفجار،
يقول –صلى الله عليه وسلم– كما في صحيح ابن حبان: (إن التجار يبعثون يوم القيامة
فجارًا إلا من اتّقى، وبرَّ، وصدَق).
2-الأمانة
وعدم الغش: التاجر الصالح لا بد أن يكون أمينا لا يغش الناس في بيعه لهم، والغش
أمر مذموم وخيانة كبيرة، والمؤمن لا يكون غاشًا ولا خائنًا، يقول الله –تعالى– في
ذكر صفات المؤمنين المحافظين على الصلوات وفرائض الدين: (وَالَّذِينَ هُمْ
لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ)، وثبت في الحديث أن من صفات المنافقين:
(وإذا ائتمن خان)، وثبت في صحيح مسلم وغيره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرَّ
على صُبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: (ما هذا يا صاحب
الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: (أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه
الناس، فمن غشنا فليس منَّا).
والغش هو إظهار الشيء على خلاف حقيقته دون علم المشتري به.
3-المروءة:
ينبغي للتاجر أن يكون صاحب مروءة؛ فيبتعد عما يذمه الناس عرفًا ويحط من قدره؛ من
الجشع والطمع الزائد، ومحاولة إضرار البائعين الآخرين بحيل وطرق غير مشروعة، قال
أبو حاتم البستي: "والمروءة عندي
خصلتان: اجتنابُ ما يكره الله والمسلمون من الفِعالِ، واستعمالُ ما يُحب الله
والمسلمون من الخِصال".
4-السماحة:
ينبغي للتاجر أن يكون سمحا في تعامله مع المشترين؛ فيكون متساهلًا معهم ويقابلهم
بطيب نفس ولا يغضب منهم ولا يجادلهم بمجرد اختلاف يسير في تحديد سلعة ما، ويبيع
للفقراء وقليلي المال بمقابل ربح قليل، ويسترجع السلعة ممن لا يريدها بعد اكتمال
البيع بصدر رحب ومن دون انزعاج، يقول –صلى الله عليه وسلم-: (رحم الله عبدًا سمحًا
إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتضى).
5-التعامل بحسن
الخلق، ينبغي للتاجر أن يكون حسن الخلق حسن التعامل مع المشترين؛ فيعفو ويصفح ولا
يتكبر عليهم ولا يسبهم أو يشتمهم إن حصل هناك اختلاف في وجهات النظر، والتاجر إن
ساء تعامله وخلقه فإنه ينفر الناس عنه وعن بضائعه، يقول –صلى الله عليه وسلم– في
فضل حسن الخلق كما في سنن الترمذي: (ما من شيء يوضع في المِيزان أثقل من حسن الخلق،
وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة).
6-النصيحة:
ينبغي للتاجر أن يكون ناصحا للمشتري؛ فيبين العيب الذي يوجد في السلعة إن خفي عليه
ولم ينتبه له، والدين النصيحة كما صح ذلك عن النبي – صلى الله عليه وسلم-.
7-المحافظة
على الفرائض: يجب على التاجر ألا ينشغل بتجارته عن فرائض الله –سبحانه وتعالى–
وواجبات الدين، ومن أهمها الصلوات الخمس في أوقاتها مع الجماعة، يقول الله – تعالى
-: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ
وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ
الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ).
وكيف للمرء أن يفرط في الصلوات في أرض الحرم، والصلاة الواحدة فيها تساوي
مائة ألف صلاة في غيرها؟ كيف تسمح له نفسه بالتفريط في هذا الفضل الكبير والأجر
العظيم؟
الهمسة الرابعة:
أخي الكريم، هناك أحكام تتعلق
بالتاجر وبمن يمتهن البيع والشراء؛ فلا بد من معرفتها لتفادي الوقوع في المحاذير
الشرعية، من ذلك:
1-طلب المال
الحلال وتجنب المال الحرام، يقول –صلى الله عليه وسلم– كما في سنن الترمذي: (لا
يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به).
2-تجنب
احتكار السلع والبضائع، يقول –صلى الله عليه وسلم– كما في صحيح مسلم: (لا يحتكر
إلا خاطئ)، أي: إلا آثم.
3-تجنب كثرة
الحلف لترويج البضاعة، يقول –صلى الله عليه وسلم– كما في صحيح مسلم: (إياكم وكثرة
الحلف في البيع؛ فإنه ينفق، ثم يمحق).
4-تجنب التطفيف
في الكيل والوزن، قال –تعالى-: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا
اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ
يُخْسِرُونَ).
5-تجنب النجش،
وقد نهى النبي –صلى الله عليه وسلم– عن ذلك كما في الصحيحين.
والنجش هو: زيادة السعر في السلعة ممن لا يريد شراءها بغرض خداع
المشتري، وهذا يحصل كثيرا في المزادات.
6-تجنب
التكسب عن طريق الربا والميسر، قال –تعالى-: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبَا)، وقال –تعالى-: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ).
7-تجنب البيع
على بيع الآخر حتى ينتهي المشتري منه ويتركه، يقول –صلى الله عليه وسلم– كما في
صحيح البخاري: (ولا يبع بعضكم على بيع أخيه).
8-تجنب بيع
السلع المحرمة كالخمر والخنزير وغيرهما، يقول –صلى الله عليه وسلم– كما في صحيح
ابن حبان: (إن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه).
9-رفض البيع
إن عُلم أن المشتري يريد السلعة لمعصية الله –تعالى-، كرفض بيع العنب لمن عُلم أنه
يصنع به خمرا؛ وذلك لأن البيع لمثله يعد تعاونا على الإثم والعدوان، والله –تعالى-
يقول: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ).
الهمسة الخامسة والأخيرة:
أخي الكريم، أنت أحد سكان البلد الحرام مكة المكرمة، وتعلم أن كثيرا
ممن يسكنون هذا المبارك لا يعرفون عظمته وحرمته المَعرِفةَ المطلوبة، وليس عندهم
القدر الكافي من ثقافة تعظيم مكة التي ينبغي لكل فرد من أهلها أن تكون مغروسة في
نفسه هذه الثقافة؛ فكن صاحب مبادرة في نشر هذه الثقافة بمالك أو فكرك أو بأسلوبك
وتعاملك مع أفراد المجتمع المكي.
وكن صاحب بصمة جميلة في المجتمع المكي؛ فادعم المؤسسات والمشاريع الخيرية
التي تفيد أبناء مكة في شتى المجالات ماديا ومعنويا؛ فما تنفقه في تلك المؤسسات
وفي مجالات الخير ووجوه البر هو ما يبقى معك فقط ويرافقك في الدار الآخرة، وأما
غير ذلك فلا تجد له أي أثر بعد أن تودع الدنيا وتفيض روحك إلى الباري –جل وعلا-.
أسأل الله العلي القدير أن يبارك في تجارتك وفي أهلك وولدك، ويوفقك لكل
خير، ويجنبك كل شر، ويجعلك تاجرا صالحا ينفع المجتمع المكي بفكره وماله؛ إنه على
ذلك قدير، وبالإجابة جدير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق