الأربعاء، 19 أكتوبر 2016

"تحدي الثلج" من منظور شرعي وصحي وإنساني


انتشرت هذه الأيام ظاهرة "تحدي الثلج"، وطريقته أن يسكب الشخص سطلا من الماء والثلج على نفسه مع القيام بتصوير ذلك ونشره في مواقع التواصل الاجتماعي، ثم يختار ثلاثة أشخاص لهم خياران خلال أربع وعشرين ساعة فحسب؛ فإما أن يقوموا بــ"تحدي الثلج"، أو يتبرعوا بـ (100) دولار لصالح مرضى التصلب الجانبي الضموري (ALS).

وكانت بَداءة تحدي الثلج -على إحدى الروايات- أن الأمريكي كريس كينيدي البالغ من العمر ستة وعشرين ربيعا تحداه صديق له أن يقوم بتحدي الثلج حتى يتمكن من اختيار مؤسسة خيرية للتبرع لها بالمال، فقام فعلا بالتحدي وتبرع لمؤسسة (
Amyotrophic lateral sclerosis) أو (ALS)، والتي تعنى بالمصابين بمرض التصلب الجانبي الضموري، وهو مرض خطير جدا يقوم بالقضاء على الخلايا العصبية، واختار هو تلك المؤسسة بالذات؛ لأن قريب زوجته مصاب بهذا المرض منذ إحدى عشرة سنة -على ما أفاده تصريحه-.

وهناك رواية أخرى تفيد أن صاحب الفكرة ليس كينيدي، وإنما شخص أخر لقي حتفه غرقا قبل أيام بعد أن جمع لصالح المؤسسة نفسها قرابة مائة ألف دولار.

وكينيدي -أو الغريق هذا- صور نفسه عند القيام بالتحدي ونشر المقطع في وسائل التواصل الاجتماعي، فأصبح يقلده أصحابه وأقرباؤه حتى لقيت الفكرة إعجاب المشاهير من الغربيين، وبدأوا هم كذلك يقومون بالتحدي والتصوير ونشر المقاطع في وسائل التواصل الاجتماعي، ومن هنا كان الانتشار الكبير لـــ"تحدي الثلج".

هذه مقدمة يسيرة جعلتها للتعريف بحقيقة هذه الظاهرة، وكيفية نشأتها، والآن أدخل إلى صلب الموضوع الذي أردت الحديث عنه، وهو:

أن هذه الظاهرة بدأت تنتشر في بلاد المسلمين، ويقلدها أبناؤنا من الكبار والصغار؛ فهل يجوز لنا -بصفتنا مسلمين– فعل ذلك؟ ألا يدخل هذا في باب تقليد الكفار والتشبه بهم؟ ألا يوجد هناك أضرار صحية تصيب من يقوم بهذا التحدي؟

بعد البحث والدراسة تبين لي أن هذا الفعل فيه عدة محاذير شرعية وصحية ومخالفة سلوكية؛ فأما المحاذير الشرعية فإن فيه تقليدا للكفار فيما هو من خصائصهم، والرسول –صلى الله عليه وسلم– قال كما في سنن أبي داود: (من تشبه بقوم فهو منهم)، والتشبه بالكفار أن تفعل شيئا يختص بالكفار، يقول شيخنا ابن عثيمين –رحمه الله– في مجموع الفتاوى (ج3 باب الولاء والبراء): "مقياس التشبه أن يفعل المتشبِه ما يختص به المتشبَه به، فالتشبه بالكفار أن يفعل المسلم شيئًا من خصائصهم، أما ما انتشر بين المسلمين وصار لا يتميز به الكفار فإنه لا يكون تشبهًا، فلا يكون حرامًا من أجل أنه تشبه، إلا أن يكون محرمًا من جهة أخرى. اهـ.

وهنا صاحب الفكرة ومن طبقها أولا كافر، ومن أتى بعده للقيام به كلهم مشاهير من الكفار، ثم يأتي المسلم ويقلدهم، أين الغيرة والاعتزاز بالدين؟!

والأمر الثاني من المحاذير الشرعية أن ما كان لله من الصدقة والتبرع ينبغي للمسلم أن يخرجه بطيب نفسه، ولا يخرجه وهو كالمكره والمجبر على إخراجه؛ فإن ذلك من صفات المنافقين، قال السعدي في تفسير قوله –تعالى- (وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ): "من غير انشراح صدر وثبات نفس، ففي هذا غاية الذم لمن فعل مثل فعلهم، وأنه ينبغي للعبد أن لا يأتي الصلاة إلا وهو نشيط البدن والقلب إليها، ولا ينفق إلا وهو منشرح الصدر ثابت القلب، يرجو ذخرها وثوابها من الله وحده، ولا يتشبه بالمنافقين" ا.هـ.


وهذا الذي يتبرع هنا ليس من تلقاء نفسه، بل بأمر أو إشارة من شخص آخر، هذا أولا، ثانيا أنه يقوم بالتبرع عند عدم القدرة على القيام بالتحدي؛ مما يدل على أنه كالمجبر على إخراج المبلغ المتبرع به.

يقول العلامة الطريفي –حفظه الله– مبديا رأيه حول هذه المسألة – كما نشرته صحيفة تواصل-: "الصدقة والزكاة والمعونات تستخرج من الناس بالوسائل المشروعة ترغيبًا بفضلها وترهيبًا من عاقبة تركها على الإنسان والناس في الدنيا والآخرة، وأما استخراجها بوسائل الإلزام النفسي (والتحدي) أمام الجماهير بأي أسلوب كان؛ فهذا لا يليق إقحام أعمال البر العظيمة وخاصة الصدقة".

وبنى –حفظه الله- رأيه على ما يأتي:

"أولاً: أن الصدقة والنفقة تتشوف الشريعة إلى إخراجها بطيب نفس خالص وإخراجها بغير ذلك من صفات المنافقين، قال –تعالى-: (وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ)، ومعنى التحدي لسكب الثلج أن من خاف من الثلج يتصدق؛ فتصدق خوفًا ورهبة، وقد نهى النبي –صلى الله عليه وسلم- عن النذر؛ لأن فيه إلزام الإنسان من غير طيب نفس، وهذا يربي على البخل؛ وأما الشريعة فتحث على المبادرة كما في الصحيحين عن ابن عمر –رضي الله عنهما– أنه قال: (نهى رسول الله
عن النذر وقال إنما يستخرج به من البخيل).

ثانيًا: أن من هذه الأفعال ما يورث خطورة على النفس؛ فالبرودة الشديدة لا تتحملها كل الأجسام، وقد يهلك الإنسان ويموت بسببها وهذا إهلاك للنفس.

ثالثًا: أن الطرق الشرعية غنية عن سبل الإنفاق التي يقلد بها الأمم، ففي أساليب القرآن والسنة كفاية، ونصوص الحث والترغيب بالإنفاق متواترة.

رابعًا: يُجمع العلماء على أن المال الذي يؤخذ بسيف الحياء منهي عنه، فيحرج الإنسان لاستغلال غلبة حيائه الفطرية؛ ليؤخذ ماله ولو نفقة أو بيعًا أو هدية وهبة، ويجب أن يحيا في نفوس الناس البذل وتؤخذ الزكاة من الأغنياء وتسهل الوسائل للإنفاق والبذل، وتكثر الجمعيات الخيرية والتضييق على ذلك يفتح أبواب الاجتهاد الخاطئ.

خامسًا: أن تقليد الغرب وما جاءوا به هو تتبع لسننهم الخاطئة رغم وجود المحفزات الشرعية في ديننا، وفي ذلك مصداق لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا شبرًا وذراعًا بذراعٍ حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم). قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: (فمن؟)".

والأمر الثالث من المحاذير الشرعية أنه يجب على المسلم أن يجتنب الرياء في عباداته وصدقاته، وما يقوم به هؤلاء من تبرعهم وتصويرهم ذلك ثم نشرهم في مواقع التواصل الاجتماعي أمر لا يخلو من الرياء والسمعة، يقول –صلى الله عليه وسلم- كما في سنن ابن ماجه: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟. قال: قلنا: بلى، فقال: الشرك الخفي؛ أن يقوم الرجل يصلي فيزين صلاته؛ لما يرى من نظر رجلٍ).

والأمر الرابع من المحاذير الشرعية أن هذا الأمر فيه تبذير وإسراف وهدر للماء والمال؛ أما الإسراف في الماء وهدره فواضح، وهو أنه يسكب هذا الصافي من غير فائدة ولا حاجة، وكم من شخص يقوم به في العالم، وأما المال فهدره يكون بصرفه في شراء المكعبات الثلجية التي توضع على رأس المتحدي.

فهؤلاء المسرفون لم يقدروا النعمة العظيمة التي هم عليها وفقدها كثير من الناس حول العالم، وهذه إحصائية نشرتها صحيفة (الآن) تبين حجم المعاناة الكبيرة من أزمة نقص الماء العذب، وبخاصة النقي منه:
"نحو 783 مليون إنسان محرومون من المياه في العالم، و 438 منهم في قارة أفريقيا وحدها.

- 780 مليون إنسان يعانون نقصًا في المياه النظيفة، أي شخص من كل تسعة أشخاص في العالم.

- 3.4 مليون شخص يموتون بأمراض ناجمة عن تلوث المياه، أي ما يعادل سكان مدينة لوس أنجلوس الأميركية، وما يقارب 99 في المئة من الوفيات تحدث في الدول النامية.

- أزمة المياه والصرف الصحي تؤدي إلى وفاة الأشخاص بالأمراض بنسبة أكبر من تلك التي تؤديها أي حرب بالأسلحة.

- يموت طفل جراء أمراض ناجمة عن المياه كل 21 ثانية.

- تقضي النساء 200 مليون ساعة لجمع المياه يومياً.

- عدد وفيات الأطفال نتيجة عدم الحصول على المياه النظيفة وخدمات الصرف الصحي تساوي عدد ضحايا تحطم طائرة 'جامبو' كل أربع ساعات.

- نحو 60 مليون شخص ينتقلون للعيش في المدن كل عام، ومعظم هؤلاء يعيشون في الضواحي والأحياء الفقيرة؛ حيث لا توجد خدمات الصرف الصحي" ا.هـ.

فلو فكرنا في الجانب الإنساني وما يعانيه هؤلاء الأعداد الكبيرة -من سكان العالم- من أزمة نقص المياه العذبة وعدم حصول الكثير منهم على المياه النقية؛ لندرك أن هؤلاء الذين يقومون بهذا الفعل لا يحملون الشعور الإنساني المطلوب تجاه هؤلاء الفقراء والمساكين في العالم.

هذا ما سبق فيما يتعلق بالمحاذير الشرعية، وأما المحاذير الصحية التي يرتكبها من يقوم بـــ"تحدي الثلج" فقد قال عنها استشاري وأستاذ أمراض القلب وقسطرة الشرايين الدكتور خالد النمر: "إن سكب كميات كبيرة من الماء المثلج هو جهد للقلب قد يسبب جلطة القلب".

وقال أيضا: "سكب كمية كبيرة من الماء المثلج على الشخص هو جهد للقلب لا يتحمله كل شخص، وقد يسبب الجلطة القلبية فيمن لديه تضيق شرايين أو قابلية للانقباض".

وتصريحه هذا نشرته صحيفة الآن.

وجاء في منشور آخر نشرته صحيفة الرأي بعنوان (احذر تحدي دلو الثلج):

"أن هذه المنافسة تسبب انخفاضا مفاجئا في درجة حرارة الجسم، وهذا يتسبب في حصول ما يسمى بردود الفعل على الصدمات الباردة.

كما يمكن أن يكون لها عواقب وخيمة للمشاركين من الفئات الضعيفة، بما في ذلك كبار السن والحوامل والأشخاص المصابين بأمراض القلب، والذين يعانون من ارتفاع ضغط الدم.

كما أن سكب الماء المثلج يمكن أن يتسبب في انخفاض ضغط الدم بشكل حاد؛ مما يؤدي إلى الاغماء.

ويستخدم الماء المثلج في التحدي لتقليد حالة الجمود التي يعانيها مرضى التصلب الضموري (
ALS)، كما أن هذا يؤدي لحدوث اضطراب وعدم انتظام في دقات القلب بعد حبس الأنفاس ب 10 ثواني، خاصة لمن يعانون من مشاكل سابقة فيه، ويمكن أن تؤدي في أسوء الحالات لتوقفه، وهذا يعني فقدان الحياة".

وجاء في المنشور أيضا: "ومن المتوقع أن يحدث خلال الأيام التالية نعاس واستفراغ وصداع، كما أن سكب الثلج يمكن أن يسبب رضوضا وإصابات في الرأس خاصة وإن كان في
أحجام كبيرة بعض الشيء، ففي هذه الحالة يجب إعادة وضع الثلج على الأماكن المصابة، وإن لزم الأمر يفضل مراجعة المستشفى للتأكد لخلو الرأس من الكسور.

كما أن سكب الماء المثلج يسبب صعوبة في الشهيق، أو ما يسمى بالشهيق السطحي. وهناك حالات أخرى تتسبب في شهيق عميق دون القدرة على الزفير لحظة الدخول إلى المياه الباردة بشكل مفاجئ.

فبخضوع عمل الرئتين إلى الجهاز العصبي غير الإرادي، فهي تتأثر بعملها بما يسمى الأفعال الانعكاسية، والتي تخرج عن سيطرة الجهاز العصبي الإرادي، وعند الدخول في المياه الباردة وبشكل مفاجئ فإن تلك الصدمة تؤدي إلى ما يسمى اللهاث غير الإرادي؛ مما يؤدي إلى سطحية الشهيق، وثم الشعور بالاختناق؛ وذلك بسبب عدم القدرة على الحفاظ على هواء الشهيق بسبب اللهاث الذي يؤدي إلى الزفير غير الطوعي.

والأمر بمجمله له علاقة بما يسمى بـ الهايبوثيرميا -أي انخفاض درجة حرارة الجسم إلى دون المعدل الطبيعي-؛ مما ينتج رد الفعل الانعكاسي، والذي يؤدي إلى ارتباك عملية التنفس المنتظمة بين الشهيق والزفير؛ حيث إن الجسم -وكونه حالة دفاعية لانخفاض درجة حرارته- يقوم بضخ الكمية الكبرى من الأوكسجين إلى أجزائه بهدف رفع درجة الحرارة، وعليه فإن الرئتين تقوم بدفع كمية كبرى من ذلك الأوكسجين إلى القلب الذي يقوم بدوره بزيادة نبضاته؛ لدفع الكمية الكبرى من الدم عبر الشرايين؛ وهنا يحدث الخلل في عملية الشهيق والزفير بسبب أن الرئتين تمتنع عن دفع الهواء الى الخارج، مما يتسبب في خلل في عملية الشهيق اللاحقة".

هذا فيما يتعلق بالمحاذير الصحية، وأما المخالفات السلوكية فمثل هذا الفعل والتصرف لا يمكن أن نتحمله من أطفالنا؛ لأنه أمر لا تقبله الفطر السليمة، فكيف بأشخاص كبار بالغين عاقلين، بل أرباب أسر ومربين؛ يقدمون على ذلك ويتبجحون به ويفتخرون أمام مرأى العالم؟!

نعم قد يحصل أحيانا من باب الممازحة في الرحلات والطلعات، ومثله أمور كثيرة تحصل بين الخواص، أما أن يقوم الشخص بفعله ويصوره ويقوم بنشر المقطع المصور أمام العالم، ويطلب فيه من أناس آخرين أن يقوموا بما قام به؛ فهذا –في رأيي- يُعد قلةَ مروءة وسماجة لا ينبغي أن يقدم عليه المرء وإن سلم من المحاذير الشرعية والصحية؛ فكيف الآن وقد تبين لنا وجود تلك المحاذير فيه؟!


البلد الحرام - الخميس 1435/2/11

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق