الخميس، 20 أكتوبر 2016

منبع الهدايات (2)



ما دام أن الله –سبحانه وتعالى- جعل هذا البيت الحرام هدى للعالمين، ومنبع الهدايات، ومكان وفود الناس إليه من كل أنحاء العالم لتلقي الهدى؛ فإنه من الضروري أن يكون مجتمع البلد الحرام قدوة المجتمعات في العالم، لا بد لهذا المجتمع أن يكون النموذج الأمثل في الاهتداء بهذا البيت، لا بد أن يكونوا هاديا مهتديا، يجب أن تتمثل الهداية فيه وتجري آثارها في عروقه؛ فهو قبلة المجتمعات كما أن البيت الحرام قبلة للناس؛ فكل فرد من سكان البلد الحرام يجب عليه أن يعي هذا، يجب عليه أن يعلم أنه –ما دام في هذا المكان- لا بد أن يمثل دور القدوة في امتثال أوامر الله، واتباع سنة النبي –صلى الله عليه وسلم–، وفي التمسك بالأخلاق الجميلة، والآداب الكريمة، والخصال الحميدة التي دعا إليها كتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم-؛ فالمسؤول في البلد الحرام ليس كأي مسؤول في غير البلد الحرام، وكذلك إمام المسجد، والخطيب، والطبيب، والمدرس، والطالب، والشرطي، والعامل، والعمدة، والموظف، والأب، والأم؛ فلا بد أن يكون كل واحد منهم قدوة حسنة في مجاله، وإماما صالحا في مهمته؛ لتكتمل بذلك صورة المجتمع القدوة الذي يقود جميع المجتمعات في هذا العالم الفسيح إلى الهدى والخير، والصلاح والرشاد.

وقد رتب الشارع الحكيم على اهتداء الناس ببيته الحرام وامتثالهم للأوامر التي جاءت لتفعيل هدى البيت؛ جزاء كريما حسنا، ويتمثل في البركة، والقيام، والأمن.

فمن البركة التي يثمرها تفعيل دور الهدى ببيت الله الحرام الحصول على الأجور الكبيرة في الأخيرة، مثل حج بيت الله الحرام، وقد ثبت أن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، ومن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ومثل الصلاة في المسجد الحرام، وقد ثبت أن الصلاة الواحدة فيه تعدل أكثر من مئة ألف صلاة فيما سواه.

ومن البركة ما يحصل كذلك من اجتماع الناس في مكان واحد، وما يتبع ذلك من تبادل المصالح والخبرات وانتشار العلم بدين الله –عز وجل– بعد أن يلتقي المسلمون بكبار علمائهم الذين يأتون لحج بيت الله الحرام وزيارته.

وأما القيام فهو ظاهر؛ حيث يحصل بتفعيل هدى البيت قيام أديانهم، وأبدانهم، وأموالهم، ومدنيتهم، يقول ابن عاشور: "إنَّ الكعبة كانت قيامًا للناس وهم العربُ؛ إذ كانت سبب اهتدائهم إلى التوحيد واتّباع الحنيفية، واستبقت لهم بقية من تلك الحنيفية في مدة جاهليتها كلها لم يعدموا نفعها".

وقال ابن شهاب: "جعل الله البيت الحرام والشهر الحرام قيامًا للناس يأمنون به في الجاهلية الأولى؛ لا يخاف بعضهم بعضًا حين يلقونهم عند البيت أو في الحرم أو في الشهر الحرام".

وقال ابن عاشور: "وكان وجود هذا البيت عائدًا على سكان بلدها بفوائد التأنس بالوافدين، والانتفاع بما يجلبونه من الأرزاق، وبما يجلب التجار في أوقات وفود الناس إليه؛ فأصبح ساكنوه لا يلحقهم جوعٌ ولا عراءٌ".

قال المهايمي: "جعله الله مقام التوجّه إليه في عبادته للناس المتفرقين في العالم؛ ليحصل لهم الاجتماع الموجب للتآلف الذي يحتاجون إليه في تمدنهم، الذي به كمال معاشهم ومعادهم؛ لاحتياجهم إلى المعاونة فيهما".

وأما الأمن فكما ظهر ذلك من كلام ابن شهاب سابقا، ويشير إليه كذلك قوله –سبحانه-: (ومن دخله كان آمنا) قال أهل العلم: "أي أمنوه من القتل"؛ فمن ثمرات تحقيق هدى البلد الحرام ما يحصل فيه من الأمن الذي يعيش الناس في ظله عيشة السعداء المطمئنين؛ فلا يخشون من مجرم قاتل وغادر، ولا من ناهب ولا سارق، بل حتى الطير والبهائم تسلم فيه من الصيد والقتل، بل حتى من التنفير من أماكنها!


حفظ الله مكة المعظمة من كل سوء ومكروه، ووفق جميع المسلمين لأداء حقها الواجب عليهم من التعظيم والتبجيل، والإجلال والتقدير.

البلد - الخميس 1438/1/19

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق