بائس من البائسين على وجه هذه البسيطة، مشتت الفكر، مكسور الخاطر، شعر ناصيته كشوك القنفذ في حدته وشدته، جلده الذي يحمله على جسمه كلحاف تسجى به وقد تراكمت أدرانه بعضها على بعض، يخيل للناظر أن جلده اللحمي قد اقترن بجلد من قشرة جافة، يفوح منه نسيم لا يسلم من شره إلا مزكوم، وتمنى من رأى شبيها له أن يكرمه ربه بالزكام قبل أن يبتلى بمنادمته ...
يرى
لداته ممن تزوجوا وتأهلوا كمن لم يوجدوا في هذا العالم إلا بشروط، وأنهم ملوك
الأرض وأمراؤها عند من يؤمن بالحقيقة؛ ينامون ويتقلبون على أسرّة فارهة، في غرف
كأنها قطع من الجنان العلوية السماوية في جمالها الساحر، ومنظرها الباهر، وما
يجدون فيها من النعيم واللذة والسرور؛ فهم الآمرون فيها والناهون، كلماتهم فيها
مسموعة، وطلباتهم مجابة، يمضون فيها أوقاتهم السعيدة في دلال فاق دلال الحسناوات،
وفي عظمة توازي عظمة السلاطين بين خدمهم وحاشيتهم، بل تفوقها؛ لأنها عظمة صنعها
الحب والمودة، وامتد جذورها إلى أعماق القلوب، وتلك الأخرى في الغالب عظمة مقطوعة
الجذور فرضها الخوف والقوة؛ فشتان بينهما.
عندما
يعود ويتأمل في نفسه وحاله يجد أن بعض القطط في المجتمع أحسن منه حالا، وأسعد منه
بمفاوز؛ يدلـّله صاحبه، ويعتني به، ويطعمه من ألذ المطعومات، وينظفه ويلاعبه،
ويهتم بحاله، ويدفع عنه من يعاديه ويؤذيه؛ في حين أنه أشبه بحجر ملقى في الطريق،
أو فضلة من فضلات المجتمع؛ لا يجد من يسأل عن حاله، ولا من يحزن لحزنه ويفرح
بفرحه، ضاقت عليه الدنيا بما رحبت، إن جالس أقرانه من البائسين يحس بأنه حضر مأتما
من المآتم، ويزيدونه هموما إلى همومه؛ فيصبح كحاوية للهموم والأحزان، وإن اقترب
إلى المتأهلين السعداء يجد في كثير من أحاديثهم رموزا وطلاسم لا يفهمها حتى السحرة
والمشعوذون؛ فيكون بجوارهم كرجل بقرب سرب من الأطيار يستعذب أصواتها ولا يفهم منها
حرفا، وقد يفهم بعض أحاديثهم لكنه لا يزيده إلا غيظا وحسرة لما يحتوي عليه من وصف
للعفيفات الحسان، وذكر لوفائهن وخدمتهن للأزواج، وحسن تربيتهن لفلذات الأكباد،
وانشراح الصدور والإحساس بالنشوة والسرور عند رؤيتهن بجمالهن ودلالهن والاقتراب
منهن والتحدث إليهن ...
الحياة
هنا في الدنيا لا تنظر إلى العَزَب إلا بعين حمراء ووجه عبوس، يعيش فيها عذابا
وجحيما، ويقاسي فيها آلاما وهموما، لا يرحمه -بعد الرحمن- إلا أعينه التي ترسل
دموعها لتزوره ليلا ونهارا، وتترك في خديه علامات تهدي إليه من يشفق على أهل البؤس
والشقاء؛ فرفقًا بهم -أيها المتأهلون السعداء-، وإياكم والشماتة بأولئك المساكين،
واكتفوا عند رؤيتهم بقولكم (الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم به، وفضلنا على
كثير ممن خلق تفضيلا).
البلد الحرام - الثلاثاء 1435/2/3 3
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق