عندما نجول في المكتبات العلمية ولم نجد –نحن الروهنجيين- فيها كتابا علميا واحدا قيما ينسب إلى أحد أبناء جنسنا من الأجيال السابقة أو الحالية؛ نخجل من أنفسنا، ونحزن على هذا الفقر الإنتاجي المدقع الذي نعيشه في الثروة العلمية!
فلا نلوم
السابقين على هذا العار؛ لأنهم كانوا في صراع دائم مع أوضاع الحياة القاسية،
ومتاعب الهجرة، وآلام فقدانهم للأوطان وعدم الاستقرار الذي يكون به صفاء الذهن،
واطمئنان النفس، وراحة البال، وتوقّد القريحة، ولا يمكن للمرء أن ينشط لترك أثر
علمي ويبرع فيه إلا بحصول هذه الأمور، وهم كانوا قد حرموها كلها.
والآن
أبناء هذا الجيل قد أسبغ الرب –جل وعلا- عليهم بكل تلك النعم التي حُرمها من
سبقهم، وأصبحوا ينعمون بكل الأجواء التي تمكنهم من ترك كثير من الانتاجات العلمية
في فنون مختلفة من العلم والثقافة؛ فماذا يكون عذرهم إن جاء الجيل القادم ولم
يجدوا أي ورث مميز تركوه لهم رغم استفادتهم من هذا الزمن الذي قامت فيه ثورة علمية
هائلة في مختلف المجالات والفنون؟!
أرى من
حولي رجالا من بني جنسي مكنهم الله -جل وعلا- من علوم عدة وبرعوا فيها بعد أن
عاشوا معها سنين كثيرة ينمّون فيها ملكتهم وقدرتهم، لكني لا أجد لهم أي أثر إنتاجي
في ذلك! رغم أن بعضهم متفرغون ومنعزلون عن الناس، وبعيدون عن مشاغل الحياة
وصورافها.
ما سبب
عزوف بني جلدتي عن التأليف المفيد، وما سبب زهدهم في مزاحمة أصحاب المؤلفات في
المكتبات الإسلامية والعلمية كما فعله ويفعله أبناء الأجناس الأخرى من البشر؟!
هل هو
شعور بالنقص، أم بالعجز، أم بعدم الثقة بالنفس؟ أم تواضع في غير محله وورع بارد؟
أظن أن
كل الأعذار السابقة غير منطقية ولا مقبولة، ولو احتج كل شخص بتلك الأعذار الواهية وكانت
منطقية لما وجدنا كتابا واحدا يأخذ حيزا في رفوف المكتبات ومعارض الكتب.
يا بني
جلدتي، يا من قضيتم جل أوقاتكم وأعماركم في طلب العلم والقراءة وصرفتم فيها عصارة
جهدكم، وسهرتم لأجلها أياما وليالي؛ اعتبروا بمن سبقوكم من أمثالكم، وأظهروا ثمرة
تعلمكم وثقافتكم في كتب تخلد ذكراكم، ويستفيد منها الأجيال القادمة من بني جنسكم
وغيرهم من الأجناس الأخرى، ويفتخر بها أهلكم وأبناؤكم أمام الملأ، كما يفتخر الآن
أهل الفرس بمؤلفات الإمام مسلم، وأهل بخارى بمؤلفات الإمام البخاري، وأهل سوريا
بمؤلفات ابن تيمية وابن كثير وابن القيم وعلي الطنطاوي، وأهل اليمن بمؤلفات
الشوكاني والصنعاني ومقبل، وأهل الهند بمؤلفات المباركفوري.
إن أهم
شيء يبقى للمتعلم في هذه الدنيا بعد أن يفارقها ويلقى ربه؛ الأثر العلمي الذي يتركه
في كتاب، وما سوى ذلك فإنه يكون في عالم النسيان، أو يبقى، لكن نفعه يكون محدودا
جدا.
إن الأثر
العلمي الذي يتركه المرء في حياته يخلد ذكراه، ويجعله يعيش بين الناس طول الدهر حيًا
وهو ساكن في قبره، وما سوى ذلك من المناصب والوظائف، والشهادات والإجازات، والرحلات
والجلسات، والدولارات والريالات؛ منه ما ينتهي نفعه في حياته، ومنه ما ينتهي نفعه
برحيله عن الدنيا، ومنه ما يبقى نفعه بعد حياته، لكن أثره يقبع في دائرة ضيقة، ولا
يتجاوز عشر ما يتجاوزه الأثر العلمي زمانًا ومكانًا، وكمًا وكيفًا.
البلد الحرام - الأحد 1436/1/1
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق